لم تكن جريمة حرق وقتل عائلة "دوابشة" التي أدت إلى استشهاد الرضيع علي وإصابة ذويه بحروق شديدة صاعقة في سماء صافية، بل هي امتداد لسلسلة من جرائم جيش الاحتلال ومخططات وسياسات الحكومة الإسرائيلية واعتداءات المستوطنين التي بلغت 11 ألف اعتداء خلال السنوات العشرة الأخيرة.
ففي الشهور الماضية، قتلت قوات الاحتلال أكثر من ثلاثين فلسطينيًا من خلال عمليات إعدام ميداني، منهم الوزير زياد أبو عين أثناء قيامه بزراعة شتلة زيتون، والشاب ليث الخالدي أثناء مشاركته في مظاهرة احتجاج على حاجز عطارة ضد جريمة دوما.
الجديد أن الجرائم التي يقوم بها جيش الاحتلال وقطعان المستوطنين صارت أكثر عددًا ووحشية ومخططًا لها، وتقوم بها في أحيان عديدة ومتكاثرة منظمات إرهابية مثل منظمة "تدفيع الثمن"، وهي منظمات معروفة تعلن عن أهدافها، وتتبنى عملياتها، وتستعرض قوتها، وتلبس أحيانا زيا موحدًا، وتوقّع في أماكن عملياتها، ولا تستثني أحدًا: الشجر والحجر، والكنائس والمساجد، وأراضي 48 ومختلف أنحاء الضفة. أما غزة فيتولى أمرها جيش الاحتلال الذي ارتكب أبشع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية أثناء الحروب العدوانية الثلاثة الأخيرة التي شنها ضد القطاع، وذهب ضحيتها آلاف الشهداء وأضعافهم من الجرحى، فضلا عن تدمير عشرات آلاف المنازل والمؤسسات المختلفة.
ما جعل مثل هذه الجرائم الجماعية والمستمرة ممكنًا أنها تمر دون ردع وحساب، وتأتي كنتيجة طبيعية لتوجه إسرائيل بثبات نحو مزيد من التطرّف والعدوانية والعنصرية والعنف، لدرجة أن الجرائم والتصريحات والاعتداءات ضد الفلسطينيين، وتحديدًا في القدس والأقصى، من يشارك فيها ليوا أفرادًا معزولين وبأعداد قليلة، بل تضم الآلاف وعشرات الآلاف، ويكون على رأسها قادة أحزاب ورجال دين وأعضاء كنيست ووزراء، لدرجة أن هناك وزراء ينافسون أكثر المتطرفين تطرفًا، مثل وزيرة العدل إيليت شاكيد التي دعت إلى إبادة الشعب الفلسطيني، وخصوصًا الأمهات لأنهن ينجبن إرهابيين وثعابين صغارًا.
فالمشكلة ليست في أفراد إرهابيين متطرفين، وإنما في دولة متطرفة، وتتجه نحو المزيد من التطرّف، وهي رعت فئات وعناصر أكثر تطرفًا من بينها المستوطنين الذين زادوا عددًا وعدة، وأصبحوا أقوياء ومتغلغلين في مختلف مؤسسات الحكم في إسرائيل، وأخذوا يشعرون بقوتهم أكثر، لذلك قاموا وسيقومون باعتداءات أكبر، ويذكروننا بما فعلته العصابات الصهيونية المسلحة عندما أصبحت قوية قبل إقامة إسرائيل، إذ كثّفت اعتداءاتها ضد العرب لهدف واضح ومحدد، وهو دفعهم إلى الهجرة، وبالتالي فالهدف من الحملة الجديدة من الاعتداءات ليس الانتقام ولا التخويف فقط، وإنما الهدف القديم نفسه وهو دفع العرب إلى الهجرة من خلال حشرهم في معازل مفصولة عن بعضها البعض ومحاطة بالمستوطنات والمعسكرات والحواجز، وتتعرض للتضييق باستمرار، انتظارًا لحلول وقت مناسب لطردهم.
إن ما يجري في المنطقة العربية وتهميش القضية، واتجاه إسرائيل نحو المزيد من التطرّف، وإحياء سياسة أرض "إسرائيل الكاملة"، وضعف الفلسطينيين وانقسامهم، وعدم قيامهم بإجراءات رادعة للمستوطنين واكتفاؤهم بالشجب والاستنكار والشكوى للمؤسسات الدولية؛ يفتح شهية المتطرفين الصهاينة لاستكمال ما عجزوا عن تحقيقه بطرد ما تبقى من السكان وتهويد الأرض، ويعفي دولة الاحتلال من المسؤولية عن اتخاذ أي إجراءات لردعهم.
فمن الخطورة بمكان المبالغة في التمييز ما بين المتطرفين، سواء كانوا مستوطنين أو غيرهم وبين الحكومة والجيش، لأن الخطر الذي يهددنا ليس من المستوطنين فقط، وإنما من المشروع الاستعماري الصهيوني الذي لا يزال مفتوحًا ولم يغلق، ويفرّخ كل أشكال التعصب والتطرّف والإرهاب، وهو أطلق عفريت المستوطنين الأكثر تطرفًا، وعندما أخذ هذا العفريت يهدد اليهود الآخرين المختلفين معه ويقتلهم أصبحت الحكومة تندد بالإرهاب اليهودي.
في هذا السياق فقط نستطيع أن نفهم ردة فعل الحكومة والجيش والعلمانيين في إسرائيل على حرق رضيع دوما، فهي تهدف إلى التهدئة ومنع إدانة إسرائيل دوليًا، وإلى استيعاب ومنع ردة فعل واسعة من الفلسطينيين، إضافة إلى الأهم وهو الخوف من أن يطال الإرهاب اليهودي اليهود جراء تزامن جريمة دوما مع إقدام متطرف متدين يهودي على مهاجمة وطعن تجمع للمثليين اليهود؛ ما جعل العلمانيين يشعرون بالخوف على أنفسهم وعلى مستقبل دولتهم، فما يبرر ردة الفعل الإسرائيلية المُدينَة بشدة لجريمة دوما ليس استنكار ما يتعرض له الفلسطينيون، وإنما الخشية من أن يستهدف الإرهاب اليهودي اليهود أنفسهم.
لعل ما يؤكد ذلك ردة فعل المتطرفين على تصريحات الرئيس الإسرائيلي الذي أدان عملية الحرق، إذ وصفوه بالخائن والنتن ورئيس العرب، وهددوه بأن مصيره سيكون مثل مصير رابين، وأن "عامير" آخر سيأتي ليكنسه.
ردة الفعل الفلسطينية على الجريمة نمطية، إن لم نقل إنها باهتة، إذ اكتفت بالحديث عن مطالبة الحكومة الإسرائيلية بردع ومحاسبة المستوطنين، مع أن هذه الحكومة تحديدًا حكومة مستوطنين بامتياز وأكثر حكومة متطرفة منذ قيام إسرائيل، وتضمنت ردة الفعل رفع الجريمة إلى محكمة الجنايات الدولية ومجلس الأمن بالرغم من أن حبال الأولى طويلة وتستغرق سنوات في وقت نحن بحاجة فيه إلى إجراءات فورية ورادعة، بينما مجلس الأمن معطل عن اتخاذ أي إجراءات رادعة بحق إسرائيل بحكم الفيتو الأميركي، الذي يقف بالمرصاد ليمنع أي إجراء ضد إسرائيل رغم جرائمها المستمرة وتهديدها الدائم للأمن والاستقرار في المنطقة والعالم.
كما تضمنت ردة الفعل المطالبة بتنفيذ قرارات المجلس المركزي حول وقف التنسيق الأمني وإعادة النظر في العلاقة مع الاحتلال، في نفس الوقت الذي تم فيه تأكيد الالتزام بسياسة منع المواجهة، خصوصًا منع أي ردة فعل فلسطينية عنيفة، وما يتطلبه ذلك من أعلى درجات التنسيق الأمني مع قوات الاحتلال كما حدث فعلًا.
ما سبق يوضح أن ما يميز الرد الرسمي الفلسطيني هو أن كل ما يهمه أكثر من أي شيء آخر تجنب المواجهة، خصوصًا المسلحة التي تفتح مثل هذه الجرائم الطريق إليها بشكل واسع. أما على الصعيد الفصائلي فكانت الردود عاطفية، وبإطلاق التهديدات يمينًا ويسارًا عن عدم ذهاب دماء الشهيد دوابشة هدرًا، وتهديد بإعلان الحرب والرد المزلزل وحرق الأرض تحت أقدام الاحتلال.
إن سياسة تجنب المواجهة المفروضة على الفلسطينيين من قبل قيادتهم هو أقصر الطرق لحدوث الانفجار الداخلي والفوضى والفلتان الأمني، وسيؤدي إلى استمرار وتوسيع الجرائم والاعتداءات ضد الفلسطينيين، وإلى اعتماد المقاومة المسلحة التي ستصبح الرد الوحيد الذي يشفي الغليل.
لا مفر من خوض المواجهة ضمن كل مستوياتها وأبعادها وأشكالها شريطة أن تحدد أهدافها القريبة والبعيدة، وأن تقاد بشكل مدروس، وتكون قادرة على ردع المستوطنين والمتطرفين من خلال اتخاذ إجراءات فورية، أهمها وأولها تبني رسمي وشعبي وسياسي بمشاركة كل الأطياف والقوى لإقامة لجان للحراسة وللدفاع عن النفس وللتصدي لاعتداءات المستوطنين في المناطق المعرضة للاعتداءات.
وفي هذا الصدد على السلطة أن تضع كل إمكانياتها وأجهزتها الأمنية في خدمة الغاية الأساسية المفترضة من وجودها لتوفير الأمن والأمان للمواطنين، وعندما تردع لجان الحراسة المستوطنين وتقع الخسائر بهم؛ فإن هذا سيدفع إلى تأجيج الخلافات بين الحكومة المتطرفة والمستوطنين الأكثر تطرفًا. كما سيدفع مجلس الأمن وبقية المؤسسات الدولية، بما فيها محكمة الجنايات ومحكمة العدل، بأخذ المطالب والدعاوي الفلسطينية بما تستحقه من اهتمام.
وثاني خطوة مفترض أن يشملها الرد الفلسطيني تبني المقاومة الشعبية بكل أشكالها قولًا وفعلًا، بما فيها وفي القلب منها تبني حملة المقاطعة وحجب الاستثمارات عن إسرائيل، حتى تصل إلى حد عزل إسرائيل ومحاسبتها ومعاقبتها.
أفضل رد كان يمكن أن يكون على جريمة دوما تحقيق فوري للوحدة الوطنية، بما يشمل دعوة الإطار القيادي المؤقت للمنظمة وتشكيل حكومة وحدة وطنية، على أساس القواسم المشتركة ورؤية جديدة وخارطة طريق لتطبيقها، تشمل الأسس والأهداف والقيم التي تجمع الفلسطينيين، وقواعد وأشكال العمل والنضال.
ما دامت مثل هذه الوحدة متعذرة من فوق بسبب جماعات مصالح الانقسام وتجذر الانقسام أفقيًا وعموديًا؛ يمكن أن تُتخذ مبادرات وخطوات شعبية من تحت، من خلال تشكيل لجان شعبية وأطر قيادية محلية بمشاركة أوسع عدد ممكن من القوى وأفراد المجتمع ومؤسساته تتولى إدارة الصراع مع المحتل، وتعمل في نفس الوقت من أجل الضغط على طرفي الانقسام وإجبارهما على الاستجابة لإرادة الشعب ومصالحه بالوحدة.
[email protected]
أضف تعليق