مرَّت عشر سنوات على مجزرة شفاعمرو، وما زالت ذاكرتنا تسترجعها مع قُرب إحياء ذكراها السّنويَّة، فلم يبقَ منها إلا ورودَ كلماتٍ متناثرة على درب الذّاكرة المؤدّي إلى النُّصب التذكاري للشّهداء... لقد مرَّت عشر سنوات والجُرح لم ولن يلتئم، ما زال ينزفُ ألمًا، يَصُب في نهر ذكريات أهل البلد وعائلات الشّهداء الأبرار، الذي ما زال يجري في أعماقه تيّار الحنين والشّوق لأبنائهم الذين غافلهم الموت في لحظات، أصبحوا في عِداد الدّولة ضحايا إرهابٍ يهوديٍّ، وفي عداد المجتمع العربي أصبحوا صرخة احتجاج مُدوّية.
عملية الانفصال عن غزّة التي نفّذها رئيس الحكومة في ذلك الوقت شارون، حرّكت في ذلك الإرهابي النّتن نتان زادة شهوة الانتقام من العرب لكونهم عربًا لا أكثر ولا أقل، ورؤيته للجيش وجميع قوى الأمن، يخلون "إخوته اليهود" من "بيتهم التّاريخي" بالقوّة، دفعه جنونه عصر ذلك اليوم لفصل هؤلاء الأشخاص عن مصل الحياة، باستخدّامه رشّاش الدّم في الحافلة، واخترق أجسادهم، كذلك اخترق عقلانيّة المجتمع العربي، وليس فقط شفاعمرو. هذه هي عقيدة اليهودي المتطرّف، التي تؤمن بأن العربي الذي يعيش في هذه الدّولة، يجب طَرده من بلاده، لأنه "جسم غريب" يعيش بين الإسرائيليين، مصيره الموت بأي ثمن وبأي طريقة!!
هذا ما طبّقه الجندي الإسرائيلي السّفّاح، الذي سفَكَ دماء أربعة برَرَة، عاشوا بيننا، عرفناهُم عن قُرب، فالشهيد مشيل بحّوث، كان يمثّل الوجه الجميل لشفاعمرو، كان الفرح يسكن يومه مع كل إشراقة يومٍ جديد، الشّهيد نادر حايك، أحبّ النّاس بساطته وعفويّته، من خلال تعاملهم اليومي معه، الشّهيدتان هزار ودينا تُركي، زهرتان فوّاحتان بالأخلاق، قدّسَتَا معنى الأُخوّة، لأنّهما توأمتان بالمصير، التزمتَا بالعلم، لأنّه كان درعهما المستقبلي، لكن شاءت الأقدار أن يجتمع الأربعة معًا في جنّة الخلود.
حلّت ظُلمة الغَضَب على أهل البلدة خلال ثوانٍ، في هذا اليوم المشئوم والتّاريخي، واخترق رصاص البسالة شبّان شفاعمرو الأبطال، فهبّوا من كل أرجاء المدينة، وانقضّوا على الإرهابي، وأردوه قتيلاً، كانقضاض الأسد على الفريسة، ولم تستطِع الشّرطة كبح جماح ثورتهم الحارقة لأي تعَقُّل أو ترَوٍ، لأنّهم اعتَبروا هذا اعتداء على عُقر دارهم واستباحة لكرامة مدينتهم التي لم تنحنِ يومًا أمام أي معتدٍ، لأن سُكّان شفاعمرو بجميع طوائفهم، دائمًا كان مصيرهم واحدًا، الشّراكة الوجدانية والاجتماعية كانت حِلفًا مُقدّسًا، لا يمكن فسخه.
يُعتبر هذا أول عمل إرهابي يحدث في مدينة عربيّة، ممّا أذهل جميع أجهزة الإعلام الإسرائيلي، الذي لم يمنح أهميّة للحدث في بداياته، واعتقد أن شفاعمرو خارج اتجاهات رياح الإرهاب اليهودي، التي لم يتوقّع جهاز الشّاباك أن تهب باتجاهها... هذا الحدث أرعب كثيرًا الشَّعب الإسرائيلي، الذي ارتعب من ردّة فعل الوسط العربي، فقاطعت معظم الشّركات التعامل التجاري مع التجّار في شفاعمرو... منعت عمّالها من تقديم الخدمات، فكان الخوف مسيطرًا عليهم، لفترة طويلة، أصابهم بشلل معنوي.
كان أثر تاريخ 4/8/2005، شديدًا على نفسية الشفاعمريين، وكان الإنترنت في بدايات تطوّر تقنيّاته الفذّة، لم يُقبِل عليه الكبير قبل الصّغير، كما نلاحظ اليوم، لم تَظهر بعد ثقافاته المتعدّدة، مثل ثقافة "الإعلام الجديد" ومشتقّاته التقنيّة الرّائجة بيننا، فانشقّ عنه ثقافة أكبر وهي ظاهرة مواقع التواصل الاجتماعي، وأشهرها موقع "فيسبوك"، إذ كان تواصل النّاس مع بعضها البعض في هذه المأساة، من خلال التواصل الوجداني الحقيقي غير الصّوري، بتقديم واجب العزاء الفعلي لعوائل الشّهداء.
كانت المشاركة ضخمة من كل أنحاء البلاد، واليوم بعد مرور عِقدٍ من الزّمن على هذه المجزرة، باتت الذّكرى محصورة بأهالي الشّهداء... لم أرَ عبر موقع "فيسبوك"، صفحة خاصّة بالمجزرة، تشرح للأجيال الشّابة الحديثة عن المجزرة، وغاب عن مواقعنا المحليّة، أي تغطية واسعة، أو ذِكرٍ، أو تذكير بها، ما تبقّى منها، مجرّد شموعٍ تُضاء سنويًّا، في مكان وقوع المجزرة، ومراسم خطابيّة، تَغلِب عليها أحيانًا الطّابع السِّياسي، بينما نجِد العائلات المفجوعة قد أغرَقَت النّسيان خلف بحر حسرتها الكبير، لئلاّ ينسوا ولن ينسوا.
[email protected]
أضف تعليق