الذكرى الثالثة والستون لثورة الضباط الأحرار في مصر التي تصادف وقوعها في الثالث والعشرين من هذا الشهر، لا تزال تحتاج وتلح بقوة على أن لا يتوقف الاهتمام بها عند حدود الاحتفالية، أو الكتابة السطحية، سواء أكانت تنطوي على أبعاد انتقادية أو أبعاد تتحسر على الماضي من باب استدعاء ذكرى انتصارية.
ثمة ما يدعو لقدر من الارتياح، بسبب، حرص القيادة المصرية على أن يتم افتتاح التشغيل التجريبي لمشروع قناة السويس الموازية للقناة الأولى، كنوع من التأكيد العملي، على تمثل نهج القائد القومي الكبير الراحل جمال عبد الناصر، الذي عرف زمانه بالإصلاح الزراعي، وبالسد العالي، وتأميم قناة السويس، وإنشاء مجمع حلوان للحديد والصلب.
رسالة قناة السويس الموازية تريد أن تقول إن الشعب المصري لا يزال يبني المزيد من الأهرامات، والمزيد من تماثيل أبو الهول، الشامخ، الصامد في وجه عاتيات الزمن.
الطريق مفتوحة أمام المزيد من الإنجازات الكبرى، التي تؤكد قدرة الشعب المصري على التواصل مع حضارته الضاربة في عمق التاريخ، وقدرته على تأكيد حضوره الفاعل، الذي يتعدى حدود الجغرافيا الوطنية.
عبد الناصر ورفاقه، خاضوا تجربة تستحق التعمق في قراءة دروسها، من حيث إنها تتعدى البعد الاجتماعي والسياسي، الذي نقل مصر من مرحلة الملكية إلى مرحلة الجمهورية، إلى البعد القومي التحرري والوحدوي، الذي ألهم القيادة المصرية للخوض في تجربة الوحدة مع سورية والعراق رغم كل ما صادف تلك التجربة من عقبات حالت دون تحقيقها.
كان عبد الناصر ورفاقه صادقين في توجهاتهم التحررية، واختار عبد الناصر أن يتحرر أولاً من التبعية للدول الاستعمارية، التي ناصبته العداء، وأمدت إسرائيل بكل أسباب القوة والتفوق، فذهب يبحث عن حلفاء جدد، اجتهد في التعامل معهم على قاعدة الفدية وليس على قاعدة الالتحاق والتذيل.
مبكراً، حاولت الدول الاستعمارية وقف مسيرة الثورة، فشنت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر، العدوان الثلاثي العام 1956، ولكن ذلك العدوان فشل في تحقيق أي من أهدافه، لكنه عزز منهج التحدي لدى القيادة المصرية، والإصرار على متابعة الطريق.
كانت الأمة العربية كلها من خليجها إلى محيطها تنتظر خطابات جمال عبد الناصر، الذي استحوذ على قلوب مئات ملايين المصريين والعرب، وكان لحضوره في القمم العربية، ما يحقق لتلك القمم الهيبة والشموخ والاعتزاز بالانتماء للأمة العربية.
الناصرية كانت تحمل ملامح قوية لمشروع قومي عربي تحرري، يتجاوز النظريات والخطابات، فقد أرسل عبد الناصر جيشه إلى اليمن انتصاراً للثورة اليمنية الوليدة ضد نظام الإمامة، وقدم الدعم للثورة الجزائرية ودعم ما يعرف بثورة الفاتح في ليبيا، وقدم الكثير في دعم الحركات التحررية في أفريقيا.
ليس لنا كفلسطينيين أن نتحدث كثيراً عن دور عبد الناصر في احتضان ودعم الثورة الفلسطينية، فما قدمه أكبر وأعمق مما يمكن الإحاطة به، ولا يكفي التذكير بأنه صاحب مشروع تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة المرحوم أحمد الشقيري، والداعم الأول والأكبر لإنشاء جيش التحرير الفلسطيني.
خلال أقل من عشرين سنة منذ قيام ثورة الثالث والعشرين من يوليو في مصر العام 1952، حتى وفاته مبكراً العام 1970، يسجل لعبد الناصر الكثير من الإنجازات الكبرى إن على صعيد مصر، أو على صعيد الأمة العربية بل إن إنجازاته تعدت ذلك إلى البعد الدولي الفاعل باعتباره أحد مؤسسي وزعماء منظمة عدم الانحياز.
على أن التجربة القومية لعبد الناصر، لم تكن التجربة الوحيدة، التي فشلت في تحقيق وحدة الأمة العربية، وبلورة ودفع مشروعها التقدمي التحرري، فلقد فشلت تجربة حركة القوميين العرب، وفشلت تجربة حزب البعث الاشتراكي، الذي نجح في أن يتسلم السلطة في بلدين مركزيين هما سورية والعراق.
وإذا كانت تجارب القومية العربية لم تنجح فإن الاشتراكيين والشيوعيين، والإسلاميين لم ينجحوا ايضاً حتى لو قيل إن هؤلاء لم يتمكنوا من الوصول إلى السلطة في أي بلد عربي حتى نختبر مدى صلاحية مشاريعهم.
الأهم ونحن نتذكر الإنجازات الضخمة التي حققتها الثورة المصرية، أن يبحث المفكرون والقادة العرب الذين يبحثون عن النجاح، في الأسباب التي أدت إلى تعثر ذلك المشروع، والمشاريع البديلة، لا لدواعٍ أكاديمية وإنما لتقديم النصح الخالص، لمن يجتهدون في اقتفاء آثار العظماء من هذه الأمة.
الظروف اختلفت كثيراً، ولكنّ للقيادة الحالية في مصر رصيدا كبيرا يؤسس لتدشين عصر النهضة الوطنية والقومية، رصيدا يقوم على أكثر من ثلاثين مليون مصري خرجوا إلى الشوارع في الثلاثين من حزيران قبل عامين، وأكثر منهم أو نحو عددهم انتخبوا الرئيس عبد الفتاح السيسي، ورصيدا يقوم على رغبة مئات ملايين العرب، التي تناضل من أجل التغيير، ومن أجل التخلص من الاستعمار، وصناعة مستقبل أفضل.
في البحث عن الأسباب من غير المقبول استعادة الاسطوانة المشروخة التي تحيل كل أسباب الفشل إلى العوامل الخارجية، فلعل الأهم هو أن يتميز البحث بالجرأة في نقد الواقع والعوامل الداخلية، نقد لا ينطلق من مبدأ التجريح، ونسف الإنجازات، وتغليب القراءة السلبية والتشاؤمية وإنما نقد يستهدف استخراج الدروس، وتقديم النصائح لصناعة القرار، بعيداً عن النفاق والمجاملة والتزلف، والبحث عن المصالح الخاصة.
[email protected]
أضف تعليق