قرّر "صاحبنا"، نهاية الأسبوع المُنصرم، أن يركنَ مركَبته في وسط الشّارع المُزدحم، قُبالة مدخل أحد المحالّ التّجاريّة ("سوپر ماركت") لشراء حاجيّاته؛ وفي المناسبة ذاتها لإجراء بعض الدّردشات "السّريعة" مع أصدقائه ومعارفه، غير آبهٍ لكلّ أولئك المنتظرين داخل مركباتهم؛ وكأنّ الزّمان والمكان عليهما أن يتوقّفا عن الحركة والسّير، إكرامًا وإجلالًا لسعادة صاحبنا "المحترم"!!

كم هو مُخجل ومُزعج ومُقيت هذا التّصرّف، والّذي إن دلّ على شيء فإنّه يدلّ على استعلائيّة وسفاهة، واستهانة بمشاعر الآخرين وعدم احترامهم، إذ لا يوجد أيّ سبب مُقنع لتأخير الآخرين وتعطيل حركة السّير وخلق اِزدحامات مروريّة، سوى حضرة "المحترم"!

إنّ صفير المركبات وزميرها، وصراخ ولعنات السّائقات والسّائقين، والطّابور الطّويل، وزحمة السّير الحاصلة نتيجة هذا الانتظار، لم تحرّك ساكنًا لدى هذا "السّيّد المحترم" الّذي رفض أن يخطوَ بضع خُطوات كَيْلا يضنيه عناء السّير، ضاربًا عُرض الحائط بعشرات المركبات الّتي اضطرّ أصحابها إلى انتظاره حتّى يقضيَ غرضَه.

ذكّرني هذا المشاكس بمقالة مُشابهة كنت قد نشرتها في الأسابيع الأولى من ولادة صحيفة "حيفا"، قبل أزيد من ستّة أعوام مَضت، ومُذ ستّة أعوام بات المَحالُ مُحالًا!

فبدل أن تقف يا "صاحبنا" وسط الشّارع وتغلق الطّريق وتعطّل حركة السّير، وكأنّك "تحتلّ" المِنطقة وما حولها؛ لن ينوبَك أيّ نائبةٍ أو مكروهٍ أو سوء، ولا تُهان كرامتك أيّها "المحترم"، لو ركّنتَ مركبتك في الموقف المخصّص لصفّ المركبات، بعيدًا عن وسط الشّارع؛ لأنّ امتلاكك للمركبة لا يعني وجوبًا امتلاكك لشوارع مدينتنا، أيضًا.

وفي سياق متّصل؛ صادفت قبل ليلتين، في كرملنا الحبيب، وأنا في طريق عودتي إلى بيتي، برفقة زميلات وزملاء لي، مركبةً تهزّ وترجّ وتضجّ في وسط الشّارع، تقلّ شبابًا في مقتبل العمر.. فلا داعي أن أكون فهلويّـًا أو عبقريّـًا أو أن أملك موهَبةً بارعةً خاصّة، كي أخمّن من بعيد، قبل مروري بجانب هذه المركبة الموسيقيّة الرّاقصة الضّاجّة، أنّ مالكَها – غالبًا - من العرب!

فعلًا، لدى اقترابي من المركبة تأكّدت وزملائي، أنّها "عربيّة أصيلة"(!!). حيث كان يرقص سائقها والرّكّاب معه، يغنّون ويصفّقون ويتمايلون ويتقهقهون على أنغام الدّبكة الفِلَسطينيّة ("ربّ الوطنيّة"!). فلم أسمع سوى أصوات موسيقى الدّبكة الصّاخبة المُنبعثة من أحدث السّمّاعات والأجهزة الإلكترونيّة داخل هذه المركبة.

موسيقى وصلَ صداها وإزعاجها إلى أبعد ما يمكن، ليصمّ آذان أولئك الجالسين في بيوتهم حتّى، لا المارّين في الشّوارع والمستمعين رغمًا عنهم لما يسمعه هذا السّائق العربيّ.

ونكايةً على ذلك كلّه، فكلّما مرّت فتاة أو شابّة أو سيّدة لا تشوبها شائبة، بجانب مركبة "الپاب"/النّادي اللّيليّ المتنقّل، اِشرأبّت إليها أعناق شبابنا عبر نوافذ المركبة، وعلا زعيقهم وصفيرهم!.. ثمّ نتساءَل لاحقًا، مُستهجنين ومُستغربين: لِمَ تكثر في مجتمعنا العربيّ مخالفات ضوابط السّير وحوادث الطّرق والموت على الطّرقات والتّحرّشات الجنسيّة والاعتقالات؟! لأنّ هذه المركبة ومثيلاتها، أيّها الأعزّة، تشكّل أنموذجات!

أًصبحنا "إرهابيّين" بحقّ أنفسنا ومجتمعنا، نعيش فوضى الشّوارع، فوضى الحريّة، فوضى الحياة وفوضى الحواسّ جميعها!

آمل أن تكون أيّها السّائق - وأيّتها السّائقة، أيضًا - على قدرٍ كافِ من الوعي والمسؤوليّة المجتمعيّة؛ عليك أن تتصرّف بشكل لائق، حتّى وأنت جالس وراء مِقود المركبة. فكّر بغيرك، ولا تفقد الحواس. فأنت لا تملك سوى المركبة الّتي تقودها حضرتك، فحاول أن تملك حسنَ التّصرّف واحترام الآخرين، كذلك.

عليك أيّها السّائق أن تتحلّى بالأخلاق، وأن تأخذ على عاتقك مسؤوليّة العمل والتّقيّد بجميع قوانين السّير، لا أن تتصرّف كما يحلو لك. فمن الوقاحة، بمكانٍ ما، أن تفرض ما لا ترضاه لنفسك على الآخرين.. أليس كذلك يا "محترم"؟!

نعم.. نحن نفتقد التّربية والتّوعية السّويّة؛ وأصبحنا نفتقر إلى الأخلاقيّات، فلم تعُد لدينا مُحرّمات أو أدبيّات أو حتّى ممنوعات في مجتمعنا، لا في الشّوارع ولا حتّى في البيوت!

(*) صحافيّ حيفاويّ، مدير تحرير صحيفة "حيفا"

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]