على رغم كلّ المشاعر التي يكنّها الغرب وقادته للعلاقات مع السعودية فلا أحد يسمح لنفسه أن يقارن النموذج السعودي السياسي بإيران، لا على مستوى التنمية الاقتصادية وحسن إدارة الموارد، ولا في بناء القدرة الذاتية العسكرية. ولا أحد يغامر بالحديث عن غير الرعونة السعودية والمراهقة، مقابل الحكمة والحنكة الإيرانيتين، وعن غياب الرؤية ودقة الحساب على مستوى القيادة السعودية مقابل ميزتي الوضوح والتخطيط بالنسبة للقيادة الإيرانية. كذلك الأمر بالنسبة إلى «إسرائيل»، كشريك مدلل للغرب تقدّم له الحكومات الغربية المال والسلاح والغطاء الديبلوماسي، لكنها تنظر إلى رموز القيادة «الإسرائيلية» وسلوكها كجهة عاجزة عن امتلاك زمام المبادرة والفاقدة للمشاريع السياسية من جهة ولقرار الحرب من جهة أخرى، بعد سنوات من الإعجاب بنموذج «إسرائيلي» مبهر سياسياً وعسكرياً، وفي المقابل تمتلئ الصحافة الغربية والتصريحات الغربية بالتحدث عن إيران بإعجاب واحترام على رغم لغة العداء.

- وحدها تركيا كانت في نظر الغرب تصلح لتقدم كنموذج مكافئ لإيران ومتفوّق عليها، فهنا دولة توازي إيران مساحة وعدد سكان وتتقدّم عليها بحجم اقتصادها، وبنظام ديمقراطي أكثر محاكاة للنموذج الغربي في مفهوم صناعة الاستقرار السياسي والانفتاح على مكونات الداخل وقوى الخارج. وفي المقابل دولة فاعلة إقليمياً تقدّم نموذجاً معتدلاً جامعاً لإسلام يتبنى قضايا شعوب المنطقة كالقضية الفلسطينية ويقيم علاقات ديبلوماسية وتنسيقية مع «إسرائيل» في آن واحد، يتحدث بلغة الشرق ونبضه لكنه عضو أصيل في الغرب عبر مؤسسته الأهمّ حلف الأطلسي. ونموذج تركيا كان المرآة التي يريد الغرب لإيران أن ترى ذاتها عبرها، وعبرها تتمّ مخاطبة النخب والشعب في إيران، للقول ليس صحيحاً أننا ندعوكم إلى التخلي عن الهوية وعن الاستقلال، فكونوا مثل تركيا. وكانت المقارنات تدور دائماً بين إيران وتركيا، أملاً بزعزعة تماسك البنى الشعبية الإيرانية ومعها النخب وراء القيادة الإيرانية.

- بعد خمس سنوات من انفجار حروب المنطقة في كل اتجاه، وبينما تبدو السعودية غارقة في حرب اليمن عاجزة عن صناعة مكانة كراع للتسويات والحلول، وتبدو «إسرائيل» دولة كسيحة عاجزة عن مبادرات السلام والحرب معاً، كانت تركيا الدولة التي شاركت في كلّ الحروب من دون أن تتورّط بواحدة منها، لكن ها هي تتهاوى كنموذج سياسي وأمني واقتصادي دفعة واحدة، بالمقارنة مع صعود النموذج الإيراني، وإثبات أهليته للتقدّم كنموذج لبلدان العالم الإسلامي التواقة لبلوغ مراتب الدول المتقدّمة والمتطلعة لحجز مقعد جدير بالاحترام بين دول العالم.

- دفعة واحدة تفقد تركيا ميزة العداوات صفر مع الجيران التي ميّزت حقبة حكم حزب العدالة والتنمية، فقطفت على العكس عداوات الجيران جميعاً بلا استثناء، من سورية إلى العراق وإيران وأرمينيا واليونان وروسيا، ودفعة واحدة تسقط الهدنة مع حزب العمال الكردستاني، والآمال بحلّ سياسي للقضية الكردية، وتتصاعد مؤشرات اندلاع انتفاضة شعبية مسلحة للأكراد في شرق تركيا على إيقاع المواجهات المستمرة منذ التفجير الانتحاري لتنظيم «داعش» ضدّ الأكراد والذي تتهم القيادة الكردية حكومة رجب أردوغان بالتورّط فيه، للانتقام من تنامي دور الأكراد على الحدود مع سورية عبر الحرب ضدّ «داعش»، وفي الداخل التركي عبر نتائج الانتخابات النيابية، وعلى ضفة موازية تبدو التسهيلات الممنوحة لـ«داعش» وسائر فروع القاعدة من الحكومة التركية وقد انتهى زمانها، في ظلّ المتغيّرات التي حملتها الانتخابات من جهة وتراجع مكانة حزب العدالة والتنمية ونهاية زمن تفرّده الأمني، ومن جهة أخرى تسارع الدينامية الدولية للضغط نحو إغلاق الحدود مع سورية ضمن شروط الحرب على الإرهاب، بصورة ستدفع عشرات الآلاف من المتطرفين والإرهابيين المقيمين على الأراضي التركية لتوظيف ما بين أيديهم من مقدرات لجعل تركيا ساحة نزيف دموي مفتوح، ما يعني في البعد الأمني لمسألتي الأكراد والإرهاب، تآكلاً متسارعاً للأمن التركي وهرولة عاجلة نحو الحروب الداخلية، وفقدان سريع للاستقرار سيتهاوى معه الكثير من عناصر النمو الاقتصادي، خصوصاً ما سيصيب قطاع السياحة، بينما على المستوى السياسي يبدو الكيان الذي كان يتباهى حتى الأمس بنظامه المستقرّ سياسياً، في متاهة البحث عن آلية لتشكيل حكومة جديدة، أو الذهاب إلى بلورة مركز حاكم، وتبدو تركيا خارج المشهد الإقليمي الذي حافظت على مكانة اللاعب الأهمّ فيه لسنوات طوال، بينما هي اليوم في حالة كوما سياسية في غرفة العناية الفائقة.

- في المقابل تتقدّم إيران كدولة سلكت طريقاً معاكساً للسلوك التركي، فخاصمت الغرب وناصبت «إسرائيل» العداء الوجودي، ودعمت حركات المقاومة بلا حساب، وتحمّلت سياسات العقوبات والحصار، وبنت اقتصادها وسط النار، وذهبت في تحدّي الخطوط الحمراء التي رسمها الغرب، في أخطر مجالات التكنولوجيا وما تمثله التقنية النووية، وبلغت أبعد مدى. وها هي إيران تحصد اليوم ثمار صمودها وثباتها اعترافاً بها دولة عظمى صانعة للسياسة بين نادي الكبار، تثبت أقدامها كدولة للحكمة والحنكة والقوة والقدرة، وهي تشق طريقها لتكون اللاعب الأول في ساحة الشرق الأوسط.

- تركيا وإيران نموذجان متطرفان متعاكسان، في القدرة على امتلاك الجاذبية، ينهيان سباق التاريخ والجغرافيا، بنجاح مبهر لأحدهما، وسقوط مدوّ للآخر. وبعد اليوم لن يكون ثمة مجال للقول ماذا لو اتبعت إيران الطريق التركية؟ لأنّ الجواب بات معلوماً، لتهاوت وتفككت إلى شظايا تائهة بلا مدار وهائمة على وجهها بلا مسار كما هي حال تركيا اليوم.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]