لم يعد سرا أن نسبة التأييد والتماثل مع "داعش" وأعمالها تتزايد وتتكشف يوما اثر يوم، داخل أوساط عديدة في مجتمعنا العربي، حتى وان أنكر أولئك فان تصرفاتهم وأقوالهم تدل على ذلك، وما اقدام قلة – لأن الامكانيات ضئيلة- على مغادرة البلاد والالتحاق بصفوف تلك العصابات الارهابية الا دليل على ذلك، الى جانب مقاضاة عدد من الأشخاص بتهم التماثل مع "داعش" ومنهم متعلمون للأسف وآخرهم 6 أشخاص من النقب غالبيتهم من معلمي المدارس. وآخر قضية تم اثارتها وأخذت حجما أكبر مما تستحق، هي دبكة الشباب والصبايا في أمسية رمضانية أحياها شباب التجمع في أم الفحم، حيث وصل الأمر الى حد التهديد والوعيد ناهيك عن الاقصاء والتكفير والتخوين، انما يؤكد أن "الداعشية" موجودة في أدمغة أشخاص كثيرين نصبوا أنفسهم أوصياء على الأرض ووكلاء للسماء، ولا ندري من أوكلهم بذلك ولا بأي حق.
ان أسلوب التهديد والوعيد مرفوض كليا من أي طرف كان، ولو كان هذا الأسلوب مجديا وصحيحا، لما خاطب الله النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في سورة "آل عمران" في كيفية التعامل مع بني قومه في بداية دعوته " ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعفُ عنهم، واستغفر لهم وشاورهم في الأمر". فكلام التعالي والفظاظة انما يأتي بنتائج عكسية، ولهذا طلب الله سبحانه وتعالى من رسوله الكريم الابتعاد عن هذا الأسلوب، بل طلب اليه أن يتشاور مع من يخالفه الرأي.
لكن أصحاب الخطاب المرتفع المصحوب بالضجيج، والذين ارتكبوا أعمال عنف في أنحاء مختلفة من العالم باسم الاسلام، وصم الاسلام بالعنف، وثبت أن هذا الخطاب المسيء لأي انسان صاحب دعوة ومبدأ لا يجديه خيرا، ولهذا انبرى عدد من المثقفين والعلماء المسلمين المتنورين الى الدفاع عن حقيقة الاسلام وجوهره، وكنموذج لهم في بلادنا العلامة المرحوم د. عبد الرحمن عباد، الأمين العام في هيئة العلماء والدعاة المسلمين في فلسطين وعضو إتحاد العلماء المسلمين، الذي توفي قبل نحو شهر تقريبا، كان قد وضع كتابه "اللاعنف في الاسلام"، ليثبت فيه أن دين الاسلام بعيد عن العنف وممارسته قولا وفعلا.
وبخصوص الحوار فقد وضع أيضا كتاب "الحوار في الاسلام" بين فيه أهمية الحوار وأنواعه وكيفية ممارسته في الاسلام، ومع غير المسلمين ومع الكائنات وحتى مع ابليس حيث يؤكد "ان المسلم المؤمن – وأقول المؤمن- لأن كثيرا من المسلمين لا يحملون من الاسلام الا الاسم، ولهذا كان الايمان شرطا مسبقا لمن يريد أن يرتقي اسلاميا الى مرتبة المحاور، فالمسلم المؤمن يتجاوز السيئة الى الحسنة." (ص 16). فهل هذا ما نراه لدى من يدعي أنه قيم على الدين فيضع السيئة أمام الحسنة ضاربا عرض الحائط بأسس الدين؟ واذا كان كل طرف يرى أنه على حق فان الله تعالى عرف ذلك، ودعا الى حوار الأنداد باحترام الرأي الآخر وحق كل طرف في عرض رأيه حيث قال تعالى " وإنّا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين".
ومن المفارقات أن أول من يخالف تعاليم الدين والأنبياء، هم أولئك الذين أعلنوا أنفسهم أوصياء على الدين باسم الدين، وهم أبعد ما يكونون عن ذلك لأنهم يخالفون ما جاءت به الأديان السماوية من تعاليم سمحاء، ودائما أقحموا أنفسهم في عداوات لا طائل منها مع من لا يوافقهم الرأي والتوجه، وتحول الاخر الى خصم ومن ثم الى عدو بنظرهم.
ولنا عبرة في تجربة حركة الاخوان المسلمين المتشددة في مصر، وتراجع علاقتها مع ثورة 23 يوليو بقيادة جمال عبد الناصر، فالحركة كان لها مؤيدون في مجلس قيادة الثورة وكانت راضية ومؤيدة للثورة التي أطاحت بالنظام الملكي وكل ما مثله من فساد سياسي واجتماعي وتبعية للاستعمار. وفي احدى اجراءات عبد الناصر والتي ألغى فيها الأحزاب، أبقى على حركة الاخوان المسلمين. وبعد نجاح الثورة وانطلاقها في طريق الاصلاحات، بدأت قيادة الاخوان تعمل على التسلط على الثورة والتحكم في اجراءاتها وقراراتها، لكن عبد الناصر بشخصيته وبالشعبية التي حظي بها، وقف أمامهم وكشف أوراقهم، وهنا تحول عبد الناصر بالنسبة لهم الى خصم فعدو، فلجأوا الى محاولة اغتياله عام 1954 أثناء القاء خطاب له في الاسكندرية. وبعد فترة أعفى عبد الناصر عن نشيطين من الاخوان وأطلق سراحهم، لكنهم عادوا ليجمعوا السلاح في محاولة أخرى لقلب نظام الحكم.
وأعاد الاخوان الكرة بعد ثورة 23 يناير عام 2011 التي قامت على نظام مبارك، ورغم أنهم لم يشاركوا فيها ولم ينزلوا لميدان التحرير، إلا أنهم عملوا على سرقة الثورة وحرف مسارها وتحويلها الى ما يخدم أهدافهم. وهذا ما فعلوه في سوريا حيث وقفوا ضد النظام القومي وتعاملوا مع الخارج، ولا يضيرهم أن يتعاونوا مع رأس الاستعمار والامبريالية من أجل تحقيق أهدافهم الضيقة.
ان التطرف والكراهية لا تقود الا الى طريق مسدودة، واذا ابتدأت الكراهية بمن هو ليس من ديني أو ملتي، سيستمر الى أبناء بيتي وهذا ما يحدث مع من يتبنى ذلك الطريق الذي لا تقره ولا تعترف به أي ديانة سماوية أو شرع انساني.
ومثال آخر على انتشار "الداعشية" في بلادنا الفاسطينية، تلك المنشورات المشبوهة التي وزعت في مدينة القدس، مدينة الأديان السماوية والأنبياء، موقعة باسم "داعش" وتحمل تهديدا للمسيحيين الفلسطينيين بأن يتركوا المدينة وإلا عرضوا أنفسهم للقتب أسوة بمسيحيي سوريا والعراق، وسواء كانت تلك المنشورات مزورة أو صادقة، فانها وجدت في "داعش" بيئة حاضنة لها. وقد أشار الى ذلك غبطة البطريرك ميشيل صباح، بطريرك القدس السابق للاتين في مدونته حيث كتب: "كان الأسبوع الماضي أسبوع أحداث تطرُّف دينيّ ودماء: في تونس وفي الكويت وفي فرنسا. واستمرَّ التدمير نفسه بصورة طبيعية في سوريا والعراق. وهنا في القدس، أراد البعض أيضًا أن يحدثوا فتنة وأن يرعبوا الناس. والله أعلم من دفعهم إلى ذلك. أمِن أنفسهم وزَّعوا المناشير أم مدفوعين مِن قبل غيرهم معنيّين هم أيضًا بالفساد والفتنة في المجتمع الفلسطيني؟ من حولنا تدمير ونوايا تدمير. ومع ذلك نحن مدعوُّون إلى الاستمرار في العيش بسلام وطمأنينة. فلا نجعل من أنفسنا ضحيّة للرعب. الله من عليائه ينظر ويرعى ويسمح للشرّ بالاستمرار إلى حين، ويمنح قوّته ومحبّته لطالبيها ليقفوا في وجه الشرّ".
ولخص لنا شاعرنا الفلسطيني محمود درويش هذه الحالة بعبارة بسيطة ومعبرة حين قال "سنصير شعباً حين نحترم الصواب، وحين نحترم الخطأ." فهل نعود لنثبت أننا شعب واحد، أم أننا سنتحول الى قبائل وعشائر وحمائل مرة أخرى، كما كنا في عصر ما قبل الاسلام؟!
(شفاعمرو- الجليل)
[email protected]
أضف تعليق