جزء ليس باليسير مما تقترفه «داعش» عمليا هو مُدرس نظريا لطلابنا بشكل او بآخر، ربما بطريقة اقل خشونة، بيد ان الجذر الفكري يظل واحدا. هذا الجذر وعلى وجه التحديد هو تظهير الذات المسلمة متفوقة ومتعالية على الآخرين، بكونها الذات المؤمنة الوحيدة على الارض وغيرها غير مؤمن او غير مسلم. تؤسس هذه التراتبية بطبيعة الحال لطيف من الممارسات المختلفة ضد الآخر تبدأ بالتعالي الشعوري عليهم واحتقارهم وتصل في اقصى صورها الى ممارسة العنف ضدهم. اي ثقافة تقوم على إعلاء الذات فوق الآخرين عوض ان ترسي قواعد مساواة تامة معهم، على اساس المواطنة والهوية الوطنية الحديثة المشتركة، وقائمة على التنوع الذي يحترم الاختلاف ولا يرى سوى التعايش اطارا للحياة البشرية هي ثقافة متطرفة وإقصائية ومآلاتها داعشية.
وسواء أكانت تلك الثقافة قومية او دينية او إثنية او جنسانوية فإن النهاية واحدة. رأى العالم هذا في نظريات التفوق الاوروبي العنصري التي انتجت هتلر ونازيته التي اعتقدت ان الجنس الآري يتربع فوق البشر كلهم، وهو احق بقيادة البشرية، وذات الأمر عكسته نظريات التفوق الياباني التي انتجت عنصرية مدمرة وإبادية في آسيا ضد الصينيين والكوريين والمنطقة، ونراه اليوم متمثلا في النظريات الداعشية التي لا تعتنق وحسب نفس نظريات التفوق بالنسبة للمسلمين بل وتطبقها عمليا عن طريق إبادة من يختلف معها، حتى وإن كان من المسلمين انفسهم. داعش اليوم لا ترى في غير المسلمين سوى كائنات لا تستحق الحياة، بل يجب سحقها، ومجرد اهداف تُستخدم للتدريب العسكري او للإعدام الإعلامي الذي يهدف الى ترهيب الاخرين وبث الرعب فيهم.
في كل ثقافة من الثقافات هناك مكونات تطرف ومكونات اعتدال، واذا ما تُرك لمكونات التطرف ان تنمو ببطء وخاصة في فضاء العملية التعليمية والتربوية فإن النتيجة ستكون داعشية المذاق، وهو ما نحصده في هذه المرحلة. في حقب سابقة سيطرت مكونات الاعتدال والتعايش والاعتراف بالآخر في ثقافات المسلمين، فأنتجت حضارات مفتخرة في الاندلس والهند وآسيا عدا عن حواضر التقدم في بغداد ودمشق. في كل هذه الحواضر حافظ الناس على اديانهم في ظل الحضارة الاسلامية، بل لجأ اليها المظلومون.
عندما وصل المسلمون الاندلس تنفس اليهود الصعداء لأنهم تخلصوا من اضطهاد الكاثوليك، وافلتوا من الخطط التي كانت تعد لإبادتهم. طوال ثمانية قرون عاش اليهود والمسيحيون تحت الحكم الاسلامي في نمط تعايش مذهل حتى بمعايير القرون المتقدمة الحالية. وعندما سقطت دولة المسلمين في الاندلس هرب اليهود معهم الى دول المغرب العربي ودول البلقان المسلمة التي كانت الدول الوحيدة في اوروبا التي آوتهم. في الهند عاش الهندوس والسيخ والبوذيون في تعايش وتكافؤ مع المسلمين تحت الحكم المغولي.
اما عندما تتعزز مكونات التطرف في الثقافة، وتتغلل الداعشية الخفية في مناهج التربية والتعليم خصوصا، وتنتج سياسيين داعشيين، فإن النتيجة لن تكون غير ما نرى هذه الايام، حيث سيادة الاسلاموية المتطرفة وحيث الداعشية تمثل اسوأ تعبيراتها. عندما يتعلم طلاب المدارس ان غير المسلمين مجرد كفار لا يستحقون سوى الاحتقار، فإن الفرق بين تفكير وممارسة داعش وقناعات راسخة وخفية من التربية الدينية الضيقة والإقصائية المبثوثة في مجتمعاتنا يصبح هو التطبيق ليس إلا. كثير من شيوخ التطرف الذين يخطبون الجمع ينطقون بخطاب داعشي، لكن لا يملكون السيف الذي تملكه داعش كي يطبقوا به بالعمل ما هم مقتنعون به بالنظر.
يثير هذه الافكار بعض النتائج والخلاصات المخيفة التي وصلت اليها الباحثة الاردنية دلال سلامة في ورقة بحثية نشرتها مؤخرا حول المناهج المدرسية وتعزيز قيم الحوار والتسامح في الاردن. النتيجة الاهم هي «أن المحتوى التعليمي لكتب الصفوف المدرسية الثلاثة الأولى، لا يمثل خطوة باتجاه تكريس ثقافة التسامح الديني، والاعتراف بحق الآخر في الوجود، بل هو في الحقيقة يواصل تكريس القيم النقيضة لها». تستند الباحثة الى تجربتها الشخصية في التعليم وتنقل انطباعاتها التي تستحق الاقتباس هنا إذ تقول: «ويمكن هنا أن أستعين بخبرتي الشخصية كمعلمة لغة عربية في مدارس وزارة التربية لمدة 13 سنة، درست خلالها في محافظات المفرق وعمان وإربد، وساعدني ذلك على تلمس أثر هذه التنشئة.
في منهاج اللغة العربية القديم للصف السابع، كان هناك موضوع تعبير مقرر على الطلبة كتابته، يتعلق بالاختلافات بين الشعوب في عادات الأكل واللباس. درّست هذا الصف أكثر من ست مرات، في عدة محافظات، وفي فترات زمنية مختلفة. وكان محزنا أن أقرأ في كل سنة موضوعات تعبير ينقسم فيها العالم إلى قسمين، مسلمين وكفار. ويتحوّل فيها الحديث عن الاختلاف في عادات الطعام إلى مقارنات قاسية اللغة بين الكفار الذين يشربون الخمر، ويأكلون لحوم الخنزير والحيوانات المقتولة خنقا، من ناحية، والمسلمين الذي لا يأكلون أو يشربون إلا طاهرا. أما الاختلاف في عادات اللباس، فيصبح مقارنة بين المسلمين الذين تلتزم نساؤهم بملابس محتشمة، والكفار الذين يسمح رجالهم لنسائهم بالخروج إلى الشوارع شبه عاريات. وأتذكر أن هناك من كانت تذهب بعيدا، فتقارن بين المسلمين الذين يحافظون على روابطهم العائلية، والكفار الذين يطردون بناتهم من المنزل بمجرد بلوغهن الثامنة عشرة.
أيضا، بوصفي غير محجبة في بيئات لا يُعدّ فيها هذا أمرا مألوفا، كان التساؤل الأول الذي ووجهت به كثيرا من قبل التلميذات في المدارس التي كنت أُنقل إليها يتعلق بإن كنت مسيحية. في واحدة من المدارس التي عملت فيها، كان لدي زميلتان مسيحيتان، أخبرتني إحداهما بعد نقلي إلى المدرسة بأيام أنها سمعت التلميذات يتحدثن في ما بينهن، ويقلن إن المعلمات المسيحيات في المدرسة ارتفع عددهن بقدومي إلى ثلاث. ومرة وُجه إلي هذا السؤال من تلميذ في الصف الثالث، أرسلوني لأشغل بدل معلمته الغائبة.
السؤال هو، ما الذي يعرفه طفل في الثامنة عن الفرق بين المسيحية والإسلام، ليكون موضع تساؤل بالنسبة إليه دين المعلمة التي جاءت لتحل في صفه حصة واحدة بدلا من معلمته الغائبة؟ الإجابة هي: التنشئة.
... ليس هناك في أي موضع في هذه الكتب ما يشير إلى ضرورة تقبل اختلاف المعتقدات الدينية وغير الدينية الأخرى. والتعايش مع أصحابها. بل نجد العكس، أي أن الأطفال يتعلمون صراحة، أن الأديان السماوية الأخرى هي أديان مضللة. وهذا يُقال للأطفال في كتاب التربية الإسلامية للصف الثالث». هذا ما تسمح به مساحة هذا المقال، وهو يغني عن التعليق.
[email protected]
أضف تعليق