لا يزال الملف الأوكراني يهدد العلاقات الروسية الغربية ويشكل واحداً من أهم الملفات التي تشير إلى عودة مناخات الحرب الباردة التي كانت سائدة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي سابقاً خلال سنوات طويلة من التنافس على قيادة النظام الدولي.
الأزمة الأوكرانية شكلت عنواناً للتسخين بين أوروبا والولايات المتحدة من جهة، وروسيا من جهة أخرى التي ضمت شبه جزيرة القرم إليها، بعد الأحداث التي شهدت عزل الرئيس الأوكراني المقرب من روسيا فيكتور يانوكوفيتش وهروبه من البلاد، مقابل فوز الرئيس الحالي بوروشينكو في الانتخابات البرلمانية التي جرت في تشرين الأول الماضي.
الولايات المتحدة الأميركية ومنذ بداية الأزمة الأوكرانية، أرادت الاستفادة من الأوضاع الجارية هناك لجهة فتح مواجهة غير مباشرة مع روسيا عنوانها الاتحاد الأوروبي، خصوصاً وأن واشنطن تدرك توجهات موسكو لاستعادة هيبتها وعودتها بقوة إلى النظام العالمي.
قبل الأزمة الأوكرانية كان الملف السوري حاضراً بقوة في الملعب الدولي، وقبله ملفات أخرى من بينها الملف الجورجي، الذي أثبتت من خلاله روسيا أنها دولة تتمتع بالقوة والمنعة التي تؤهلها لتغيير شكل النظام الدولي الحالي.
واشنطن استدركت أن أفضل طريقة لمحاولة تطويق روسيا وحصارها اقتصادياً وسياسياً في الأساس، يأتي بوساطة سياسة دول الجغرافيا المتلاصقة، الأمر الذي جعل الولايات المتحدة تصعد من لهجتها ضد روسيا، عبر دعوة دول كثيرة في أوروبا لفرض عقوبات على روسيا.
في العام السابق، اجتمعت واشنطن مع عدد من حلفائها الأوروبيين، واقترحت عليهم فرض عقوبات على روسيا من أجل إضعافها اقتصادياً، ما يؤدي بها إلى التراجع عن مواقفها في الملف الأوكراني وبالتالي في باقي الملفات الأخرى.
وبالفعل قررت تلك الدول اتخاذ إجراءات فورية شملت فرض عقوبات اقتصادية وسياسية، تمثلت بحظر دخول عدد من المسؤولين الروس وتجميد أصولهم، فضلاً عن اتخاذ إجراءات في مجالات مالية وتجارية وعسكرية، ضمن فترة زمنية تصل إلى عام.
حديثاً مدد الاتحاد الأوروبي عقوباته بحق روسيا لمدة ستة أشهر، تنتهي أواخر كانون الثاني 2016، الأمر الذي دفع روسيا إلى الرد على تلك العقوبات الأوروبية بتمديد العقوبات الروسية الموازية لمدة عام، وهذا الإجراء اعتبرته موسكو يتماشى مع مصالحها الاقتصادية.
ولتغطية العجز الناتج عن العقوبات الأميركية والأوروبية، توجهت روسيا إلى دول كثيرة وفتحت قنوات اقتصادية مهمة معها، وتشكل صفقة الغاز الروسي - الصيني التي وقعت العام الماضي، الحدث الأبرز في جولات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى دول صديقة.
وسعياً لفتح أسواق جديدة لمصادر الطاقة الروسية الضخمة وفي ظل التوتر في الغرب، ذهبت موسكو إلى الشرق لتسويق منتجاتها من الغاز الطبيعي، وبلغ اتفاق توريد الغاز الروسي إلى الصين ما يزيد على 400 مليار دولار، في صفقة اعتبرت الأضخم في تاريخ روسيا.
وفي حين راهنت الولايات المتحدة على أن روسيا ستدخل من جديد مرحلة سباق التسلح الذي كان السبب الرئيس من قبل في انهيار الاتحاد السوفييتي، إلا أن موسكو استفادت من دروس وتجارب الاتحاد السوفييتي، وتبنت خطة لتحديث وتطوير ترسانتها العسكرية. ويبقى السؤال إلى أي مدى ستنجر إلى ما تريده أميركا؟
وتشير التقارير الروسية إلى أن موسكو لم تتضرر من العقوبات الغربية عليها، خصوصاً في المجال الدفاعي والعسكري، بل تقول تلك التقارير إن روسيا باعت عتاداً عسكرياً في العام الماضي 2014 بما يزيد على 15 مليار دولار، تساوي تقريباً حجم مبيعاتها في العام 2013.
ويلاحظ من المشهد الروسي أن هناك استراتيجية تستهدف تطوير ترسانتها العسكرية، يشمل ذلك الإفصاح عن أسلحة ثقيلة وأخرى هجومية ودفاعية جد متطورة، ويبدو أن الغرض منها يتصل بتمكين روسيا وإحياء قوتها وهيبتها على الصعيد الدولي، إلى جانب استمرار وضعها في مكانة الدول الأوائل والمتفوقة في تصدير السلاح إلى مختلف دول العالم.
أضف إلى ذلك أن روسيا تفهم وجود الناتو إلى جوارها الجغرافي، ومساعيه في ضم دول أوروبية شرقية، فضلاً عن استمالات أوكرانيا للانضمام إلى الناتو، كل ذلك يدعو موسكو للشعور بالقلق من هذا التواجد العسكري المجاور لها.
ومؤخراً ترغب الولايات المتحدة عسكرة أوروبا عبر نيتها نشر مدرعات وإعادة نشر صواريخ في سبع دول أوروبية، تقاطعت هذه الرغبة مع اجتماع مهم لوزراء دفاع الدول الأعضاء في حلف الناتو أمس وأول من أمس، حيث صرح وزير الدفاع الأميركي أشتون كارتر عن هذا الموضوع.
كارتر الذي زار إستونيا وألمانيا قبل مشاركته في اجتماع وزراء الناتو ببروكسل، أفصح عن هذه المعلومة حتى يجس نبض الروس أولاً ومن ثم الشركاء الأوروبيين، خصوصاً مع تخوفات ألمانية وفرنسية من الدعوات الأميركية لنشر صواريخ أميركية تحمل رؤوساً نووية في أوروبا.
يبدو أن واشنطن تريد أن تشغل أوروبا بروسيا والعكس صحيح، وكأنها تدخل في حرب باردة استنزافية، اللهم أن الخسائر الأميركية قليلة جداً، لأسباب كثيرة أهمها البعد الجغرافي بين واشنطن وروسيا، وبالتالي أول من يتحمل تكاليف هذا التصعيد هو أوروبا وروسيا.
ليس في وارد الساسة الأميركان أن يدخلوا في حرب مباشرة مع روسيا، لأن ذلك سيؤدي إلى رفع تكلفة الحرب التي لن تكون بين بلدين، بقدر ما أنها ستتحول إلى حرب عالمية ثالثة، ولذلك فإن حيلة واشنطن في تخليق حرب باردة تتجسد في أنها تديرها من بعيد وعبر التحكم بشركائها الأوروبيين.
وتفعل واشنطن ذلك، لأنها تريد ضمان التفوق في كل شيء، التفوق الدولي واستمرار قيادة العالم، والتفوق العسكري، بالإضافة إلى أن فتح مواجهة غير مباشرة مع روسيا بوساطة الشريك الأوروبي، سيدعو الولايات المتحدة للاهتمام في كيفية التعامل مع دول أخرى مثل الصين مثلاً.
أيضاً يمكن القول إن الولايات المتحدة استفادت من تجربة الذهاب في حرب تقليدية، عبر استبدال هذه الفكرة بطرائق أقل تكلفة، تتضمن تثوير الشعوب من الداخل، وفتح جبهات حروب تشارك فيها واشنطن من بعيد، إلى جانب توجيه لكمات للعدو بوساطة لكمات الصديق.
هذا ما تفعله واشنطن حالياً مع روسيا، لأنها مقتنعة بأن إرهاق موسكو وإتعابها اقتصادياً وعسكرياً، سيضمن بقاء الولايات المتحدة على رأس النظام الدولي لفترة أطول، وذلك لا يتأتى حسب العقيدة الأميركية إلا عبر تصوير موسكو على أنها البعبع الذي يريد وضع أوروبا في جيبه.
[email protected]
أضف تعليق