دخل الفلسطينيون، عصر يوم أمس، مرحلة جديدة في معركة التحرر الوطني والمواجهة مع الاحتلال بتقديم وزير الخارجية رياض المالكي ملفات فلسطينية ووثائق تدين اسرائيل وجرائمها خاصة فيما يتعلق بجريمة الاستيطان والعدوان العسكري عام 2014 والجرائم المرتكبة بحق الاسرى الفلسطينيين لدى المدعية العامة في المحكمة الجنائية الدولية. هذه الخطوة تشكل نهجا جديدا في المواجهة الطويلة مع الاحتلال الاسرائيلي باستخدام القضاء الجنائي الدولي، وهي بالتأكيد الخطوة العملية أو التطبيق الفعلي لانضمام فلسطين لمعاهدة روما بداية العام الحالي. ويمكن اعتبارها الخطوة الثانية في طريق الالف ميل حسب للمثل الصيني "رحلة الالف ميل تبدأ بخطوة واحدة".
شكك العديد بنوايا السلطة الفلسطينية وبالرئيس الفلسطيني محمود عباس تحديدا بعدم جديتهما وعدم رغبتهما بمتابعة تطبيق اجراءات الانضمام للمحكمة الجنائية؛ قد يكون هذا التشكيك مشروعا في عالم السياسة والمنافسة الحزبية وكسب النقاط أو تسجيلها، وقد يكون أيضا مشروعا في الحالة الفلسطينية لغياب الثقة بين الفرقاء وعدم وضوح الرؤية وانسداد الافق.
منهج الرئيس محمود عباس لا يكمن فقط في جلب التعاطف الدولي مع الشعب الفلسطيني، وإحراج دولة الاحتلال أمامه، أو استخدام الادوات القانونية الدولية في المواجهة السياسية من مؤسسات هيئة الامم المتحدة أو المحاكم الدولية، أو تجنب وحشية الاحتلال واعتداءاته على المواطنين، أو وقف اجراءاته التعسفية بحق الفلسطينيين ردا لأي مبادرة فلسطينية بضغط دولي، أو الابقاء على صورة الضحية أمام المجتمع الدولي أو تحسين صورة الفلسطيني أمام المجتمع الدولي بمقاومته السلمية، بل في تجسيم الارادة الفلسطينية وفرض أمرٍ واقع أمام المجتمع الدولي دون القدرة على مقاومته، وهنا تكمن حصافة الرئيس في المعالجة السياسية.
طريقة الرئيس محمود عباس التي تميل للبطء والتروي في اتخاذ القرارات، أي الطبخ على نار هادئة، بالوقت الذي يميل المجتمع الفلسطيني للسرعة والانفعال، وهي ناجمة عن الرغبة في التخلص من الاحتلال والانعتاق، تظهره بشكل متردد أو غير منسجم مع المطالب الشعبية أو قراراته غير ذات صلة بتوجه استراتيجي متماسك. لكن ينطبق هنا القول إن وضوح الغاية من التوجهات الاستراتيجية بعيدة المدى لدى الرئيس تظهر في القضايا الجوهرية ذات الطابع الاستراتيجي عند تراكم الاعمال، وكأن الرئيس يجسم المقولة الماركسية "التراكم الكمي بالضرورة يؤدي الى تحول نوعي" التي خَبِرَها في الاتحاد السوفييتي؛ فمن اصرار على رفع مكانة فلسطين إلى دولة في الامم المتحدة وتَمَكْنِها من التوقيع على الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، ومن ثم العودة الى المفاوضات لإثبات حسن نوايا الفلسطينيين أو بالأحرى اثبات سوء نوايا الحكومة الاسرائيلية ورفض اسرائيل للمفاوضات طريقا للسلام، مرورا بالتوقيع على عدد من الاتفاقيات الدولية ردا على تنصل الحكومة الاسرائيلية من اتفاق الافراج عن اسرى ما قبل "اوسلو"، وتتويجها بالتوقيع على ميثاق روما بعد اكثر من ثمانية أشهر، ثم الانتظار أشهر الانضمام والتحضير الهادئ لملفات وأدلة وبيّنات، وصولا لفتح تحقيق ابتدائي أو الفحص الابتدائي من قبل المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية في جرائم الحرب وضد الانسانية اقترفتها اسرائيل وهو تتويج لمنهج الرئيس محمود عباس وحصافة قراره السياسي.
[email protected]
أضف تعليق