استهولت الخبر الذى تناقلته مختلف وكالات الأنباء العالمية عن قيام جماعة «داعش» بتفخيخ آثار «تدمر» التى تعد من أقدم المدن التاريخية فى العالم. ذلك أنها احتفظت ببقايا واحدة من أهم الممالك السورية القديمة التى ازدهرت فى عهد ملكتها الشهيرة «زنوبيا». وكانت منافسا قويا لحضارة روما القديمة. وسواء أكان ذلك تمهيدا لهدم آثار تلك المملكة (التماثيل والأعمدة والمسرح وأقواس النصر) أم للتحذير من محاولة إخراجهم من المدينة. فالثابت أنه تم تلغيم كل ذلك، وأن هدم تلك الآثار العظيمة أصبح واردا فى أى لحظة. ذلك أننا إذا كنا بصدد أناس اختلط لديهم الجهل والتعصب بالجنون، فكل شىء يصبح واردا. وإذا كانوا قد سوغوا لأنفسهم إبادة للبشر فإن محو الأثر يغدو أيسر وأهون.
سوابقهم لا تشجع على إحسان الظن بهم من أى باب. فقد فعلوها فى العراق بعد احتلال الموصل. وعمدوا إلى تدمير متحفها بما يحويه من تماثيل ومنحوتات تنتمى إلى الحضارات الآشورية والهلينستية التى عاشت فى المنطقة قبل آلاف السنين. وفعلها أقرانهم فى أفغانستان حين سعوا إلى هدم تمثالى بوذا فى باميان. وكان مفجعا أن الحرب الدائرة فى اليمن أصابت ٢٦ موقعا أثريا، من بينها سد مأرب، الذى يعود تاريخه إلى القرن الثامن قبل الميلاد ويعد الآن أقدم سد معروف فى العالم. كما أصاب الدمار قلعة القاهرة فى تعز ومدينة ربيد التى صنفتها منظمة اليونسكو ضمن التراث الإنسانى العالمى. فضلا عن صنعاء القديمة بعمارتها البديعة التى لا نظير لها.
هذه الهجمة البربرية على الآثار والتاريخ شىء فظيع لا ريب، لكن الأفظع منه ما أصاب البشر من قتل وتشريد. ذلك أن المرء إذا كان له أن يشعر بالحزن لتهديد آثار تدمر أو العراق أو اليمن، فإن الشعور بالصدمة والفجيعة لابد أن يتضاعف حين يستحضر قائمة الضحايا الذين يسقطون كل يوم فى مهرجان الجنون الذى توزعت فقراته على أرجاء العالم العربى. ولست أخفى أننى شعرت بالذنب والخجل حين انفعلت لتفخيخ آثار تدمر وكدت انشغل بذلك الحدث، دون انتباه لما أصاب الشعب السورى الذى فقد خلال السنوات الأربع الماضية أكثر من مائتى ألف قتيل، وشرد من أبنائه أربعة ملايين. ولاتزال براميل المتفجرات تلقى على تجمعاته حينا بعد حين.
لقد اعتبرت أن الاكتفاء بالغضب لتدمير الآثار موقفا غير أخلاقى يمكن أن يغفر للسياح الذين تعجبهم فى بلادنا آثارها وشمسها. ولا يكترثون كثيرا بالبشر فيها، ومنهم من يعتبر البشر جزءا من الديكور والفولكلور الحى الذى تبهجهم مناظره. وذلك ما حدث حين لجأت عناصر طالبان عام ٢٠٠١ إلى تدمير تمثالى بوذا فى أفغانستان. إذ قامت الدنيا ولم تقعد آنذاك غضبا لذلك السلوك الهمجى، حتى جرت حينذاك مناقشة حول شرعية التدخل العسكرى فى هذه الحالة للدفاع عن التراث بدعوى أنه ملك للبشرية وليس للأفغان أو البوذيين وحدهم. حدث ذلك حين كان البلد كله يدمر وليس التمثالان وحدهما.
شىء من هذا القبيل حدث فى أعقاب سيطرة داعش على «تدمر»، حين نشرت «الاكسبريس» الفرنسية (فى ٢٨/٥/٢٠١٥) مقالة تحت عنوان «سورية عار العالم» لأحد كتاب الجريدة (كريستيان مكاريان) انتقد فيها سكوت العالم على الأخطار التى باتت تهدد ذلك الكنز الذى لا يقدر بثمن، معتبرا أن ما جرى صدم ضمير العالم بكارثة ينبغى أن ينهض الجميع لوقف تداعياتها.
الأمر بالنسبة لنا ينبغى أن يختلف. ذلك أننا لا ينبغى أن نغفل الكارثة العظمى التى حلت بشعوبنا حين أصبحت ضحية لأنظمة مستبدة قاسية أو جماعات وحشية جاهلة. فذلك همنا الكبير الذى يظل على رأس القائمة. كما أننا لسنا مطالبين بأن نختار بين الدفاع عن كرامة شعوبنا وبين الدفاع عن كرامة آثارنا التاريخية. إذ بوسعنا أن نضع الاثنين فى المقدمة. ذلك أن إعطاء الأولوية لشعوبنا لا ينبغى أن يكون على حساب الدفاع عن التاريخ والحضارة. وإذا قلنا بأن مظلومية شعوبنا هى الهم الأول فلا يعنى ذلك أنها الهم الأوحد. بل أذهب إلى أن استرداد المجتمع لكرامته وحريته يشكل الضمانة الحقيقية للدفاع عن آثارنا وتراثنا الحضارى وأوطاننا كلها. علما بأن وحشية الجماعات الجاهلة من أصداء وحشية الأنظمة المستبدة التى تظل مصدر كل الشرور والمفاسد.
[email protected]
أضف تعليق