التقى في العاصمة السورية دمشق، الأسبوع الماضي خمسة من البطاركة المسيحيين، رؤساء كنائس الموارنة، السريان الأرثوذكس، الروم الملكيين الكاثوليك، السريان الكاثوليك والروم الأرثوذكس في قمة مسيحية مشرقية لرؤساء تلك الكنائس في المنطقة، وصدر عن ذلك اللقاء بيان له عدة أبعاد ودلالات لم تلتفت اليها وسائل الاعلام ولم تحفل بها للأسف.

إن أهمية لقاء بطاركة أنطاكية يستمد أهميته من مجرد عقده في عاصمة العروبة دمشق، في أيام عصيبة وشديدة تشهدها منذ بداية الأزمة السورية قبل أربعة أعوام ونيف، وفي ظل اشتداد الهجوم الارهابي الذي تنفذه منظمات ارهابية، تكفيرية، ظلامية وفق مخططات غربية خبيثة لضرب سوريا ووحدة شعبها وأراضيها. كما أن هذا اللقاء جاء روحيا بالدرجة الأولى، لذا تجنب البطاركة وربما لأول مرة التقاء أي مسؤول سياسي سوري، حتى لا يتهموا بتأييدهم للنظام السوري القائم أو للرئيس بشار الأسد كما وصموا – أو بعضهم – في السابق، لكن هذا لا يعني حيادهم أو نأي أنفسهم عن الصراع الدائر على أرض الشام الحبيبة.

وصدر عن لقاء البطاركة بيان في غاية الأهمية يحتاج الى مراجعة واعادة قراءة له، لما حمله من أفكار ومواقف ودعوات تهم ليس فقط جمهور المؤمنين التابع لكنائسهم أو للمسيحيين عامة، بل تهم كل سكان المنطقة بالأساس على اختلاف تركيباتهم وانتماءاتهم، ومن المهم القاء الضوء على ذلك البيان والوقوف عند أهم ما جاء فيه، ومن الخطأ التعامل معه كأي بيان عادي.

حمل البيان رسائل الى عدة أطراف وجهات وتجمعات، من خلال التوجه الأساسي لجمهور المؤمنين، جمهور كنائسهم الخمسة. ورسائل قصيرة الى أبناء سوريا ولبنان والعراق وفلسطين ورسالة الى المجتمع الدولي وعودة لمخاطبة جمهور المؤمنين واختتم بدعاء الى "والدة الله".
في الزمن المظلم.. معيشة انجيلية

يتوجه بيان البطاركة أولا بل وعلى طول البيان الى جمهور المؤمنين، لكن في الفقرات الأربع الأولى يأتي التوجه مباشرا وصريحا، ومعلنا أن هذا الجمهور يعيش "عيشة تليق بالإنجيل"، في اشارة الى ما يتعرض له المسيحيون من ملاحقة وتعذيب وتهجير وقتل على أيدي عصابات التكفير والاجرام، أسوة بما تعرض له السيد المسيح (له المجد) على أيدي اليهود والرومان وأعدائه.

ويعبر البطاركة عن فرحتهم - رغم المحنة الحالية- بهذا اللقاء الذي يجمعهم "في دمشق، هذه المدينة المباركة التي احتضنت بولس رسول الأمم"، دمشق التي لها منزلة كبيرة في قلوبهم وقلوب المسيحيين والعرب عموما، "وحيث أرادنا الله أن نكون له شهودًا" وهذه إشارة أخرى من البطاركة بضرورة التمسك بهذه الأرض المقدسة وعدم التخلي عنها ومغادرتها والرحيل عنها كما يجري في معظم الحالات، لأن هذه هي ارادة الله تعالى.
ويوصي البطاركة أتباعهم "أن تعملوا جاهدين من أجل وحدة بلدانكم ورقيها وقيام الدولة المدنية فيها"، وفي هذا موقف واضح لجمع البطاركة، بأن الدولة التي يصبون اليها ويريدونها دولة مدنية تضمن حقوق المواطنين وتعتمد المواطنة نظاما لها، ومن نافل القول أنهم يرفضون ما يسمى "الدولة الاسلامية" وفق ما تدعو اليه داعش وأخواتها، دولة تلغي الآخر، كل آخر غيرهم سواء كان مسلما أم مسيحيا أم علويا أم أزيديا أم سواهم، دولة ظلامية لا تكفل الحقوق ولا تعترف بالمواطنة، ورغم هذا البديل الأسود القاتم، إلا أن البطاركة تجنبوا اعلان تأييدهم للنظام القائم، لئلا يشكل ذلك مأخذا عليهم، وطالبوا بدولة مدنية.

وهذا كله لا يتحقق دون التعاون والتنسيق مع "اخوتنا المسلمين، شركائنا في الوطن والمصير" كما يؤكد البيان، ويذهب الى أبعد من هذا الشعار الذي تردد مرارا وتكرارا، الى المطالبة بالتعاون "لمواجهة الفكر التكفيري وتجفيف منابعه" وذلك من خلال "تربية دينية"، نعم تربية دينية دون تحديد مسلمة أو مسيحية، بل تربية مشتركة تحترم المعتقدات وتنشر روح المحبة والانفتاح والحرية.


وحدة البلد.. القضية المحقة .. البقاء والتجذر

وينتقل البطاركة بعد الحديث المطول مع جمهور كنائسهم ورعاياهم، الى توجيه رسائل سريعة ومقتضبة لكنها تحمل مواقف واضحة لا لبس فيها، عما يجري في الدول التي تتعرض للانتهاك سواء الخارجي أو الداخلي لتنفيذ مخططات شيطانية، وهي سوريا والعراق ولبنان وفلسطين.
يؤكد البطاركة موقفهم بالنسبة لسوريا والمتمثل بوحدة البلد وحق الشعب بتقرير مصيره وايجاد حل سياسي للأزمة. ويرفضون تدمير العراق واقتلاع شعوبه. ويدعون لانتخاب رئيس للبنان كي يكتمل بناء الوطن. أما فلسطين فتبقى في القلوب لها مسكنا وهي قضية محقة لن تخبو شعلتها.
ويتوجه البطاركة الى المجتمع الدولي وهم على يقين ما لكلمتهم من تأثير في هذا المجتمع، الذي تصادر ارادته بأيدي أنظمته وحكوماته التي تسيرها مصالحها، فلم تعد تعرف دينا أو انسانية أو عدلا إلا بالشعارات التي يطلقونها وهم أبعد ما يكونون عنها، فيزوروا ارادة الشعوب ويسكتونها بمحاربة التطرف والارهاب ظاهرا، بينما هم يدعمونه قلبا وقالبا دون أي رادع أو وازع طالما أن مصلحة الفئات الحاكمة تتطلب ذلك.
ولا يغيب عن بال البطاركة تلك الاعتبارات لذا يعلنونها واضحة مدوية أننا من هذه الأرض، "ومتجذرون بترابها" ويرفضون دعوات التهجير والترحيل من أي طرف كان "ونؤكد أكثر من أي يوم مضى أننا باقون فيها لنبنيها مع شركائنا في المواطنة". فلتكف أيها الغرب الاستعماري الجشع عن مخططاتك وشهواتك بابتلاع خيرات المشرق العربي، ولتعلم أن المسيحيين العرب ليسوا رهينة بيديك أو جاليات تحت حمايتك، واذا ما كنت تهتم بمصيرهم حقا فعليك مساعدتهم "على البقاء والتجذر في أرضنا" وليس اعلان فتح بلادك لاستقبالهم كي تفرغ الشرق من الحضور المسيحي، ولهذا نحن لا نعول عليك بل على " شركائنا في المواطنة" اخوتنا المسلمين وغيرهم، بان نعود ونبني أوطاننا معا على أسس جديدة ومتينة لا تعصف بها رياح الشر مهما بلغت قوتها.


شراكة الماضي والحاضر والمستقبل
بيان بطاركة المشرق فيه من القوة والصراحة ما يمنح المسيحيين العرب شحنة من الشجاعة بفعل الايمان القوي، المستند الى تعاليم السيد المسيح (له المجد) التي لا تزول وتصلح لكل عصر وأوان. وفيه من الوضوح والشفافية ما يؤكد أن المسيحيين العرب هم أصيلون وبناة حضارات المشرق وزارعو أراضيه، وهم ورثة تراث كبير وعظيم من التضحية والدفاع عن الأرض والقيم والمثل العليا، وهم عماد التعاون البناء والشراكة الحقيقية والعيش المشترك مع اخوتهم المسلمين. وفيه من الرصانة والمكاشفة ما يؤكد أن الكنيسة المشرقية راسخة، متجذرة، وفية لبلادها وأوطانها وشعوبها ولوحدتها وبقائها كما كانت في الماضي وهكذا اليوم وفي المستقبل أيضا.
(شفاعمرو – الجليل) 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]