انشغلت الساحة الفلسطينية بجدل خلافي، أكثره داخلي وأقله عربي، حول الأداء الفلسطيني في مؤتمر «الفيفا» الأخير. بعض هذا الجدل كان موضوعياً لكن البعض الآخر كان مدفوعاً بخلفيات سياسية، ولذلك كان جاهزاً بالرفض وربما التشكيك والإدانة.
لكن الجدل الأهم هو ذلك الذي دار ولا يزال يدور داخل إسرائيل.
فمجرد وصول المقترح الفلسطيني الى مؤتمر «الفيفا» ومناقشته فيه وبغض النظر عن النتيجة، اشعل فتيل جدل داخلي حامي الوطيس شارك فيه عشرات الصحافيين والمعلقين والمسؤولين الإسرائيليين.
وقد تجاوز الجدل حدث زيورخ نفسه، واستحضر كل الهواجس الإسرائيلية وايقظ كل المخاوف الكامنة من العزلة الدولية والحصار ودفع بها وبتعبيراتها الى السطح، وبتركيز خاص على منظمة «بي دي اس» التي تقود حملة المقاطعة على المستوى العالمي.
وأعاد الجدل استحضار وتأكيد حقيقة ان إسرائيل، بخلاف معظم دول وشعوب العالم، لم تتكون بنتيجة تطور مجتمعي وتاريخي، بل قامت بقرار من المجتمع الدولي وبنتيجة ظروف معروفة سبقت الحرب العالمية الثانية وأُخرى نتجت عنها وتوافقات سادت العالم بعد تلك الحرب. وان المجتمع الدولي ممثلا بدوله المتنفذة شكل الحامي والداعم للكيان والمدافع عنه. وهي لذلك لا تملك رفاهية القبول بعزلة يفرضها عليها هذا المجتمع ومؤسساته الرسمية والمجتمعية.
نتنياهو تكلم عن «حملة» حين قال «ان إسرائيل تواجه حملة دولية لنزع الشرعية الدولية عنها ......وإنما هي ناجمة عن الرغبة في نفي حقها بالوجود.»
صحيفة يديعوت أحرونوت انضمت الى معركة التصدي لحملات المقاطعة مدعية انها تشكل «تهديدا وجوديا لإسرائيل» و» محاولة لنزع شرعيتها». ومضيفة ان « حملات المقاطعة الاقتصادية والأكاديمية والثقافية أصبحت تهديدا استراتيجيا.»
وفي مقابل دعوات انفعالية الى التجند لمواجهة المقاطعة ومواجهة هجماتها ضد حق اسرائيل بالوجود، ودعوة متطرفين الى سجن الرئيس أبو مازن او محاكمته، فان أكثرية الكتاب الصحافيين اكدوا بجرأة ان سياسات دولة الاحتلال هي ما يقدم لحملات العزل والمقاطعة عوامل نجاحها.
ريفيت هيخت مثلا، كتب في هآرتس في 3 حزيران «مشكلة إسرائيل ليست الـ «بي دي اس» او جبريل الرجوب، وإنما مشكلة إسرائيل هي الاحتلال.»
أما أسرة تحرير هآرتس فقد كتبت في 1 حزيران «لقد شرحت الـ «فيفا» لإسرائيل ما لم تنجح منظمات دولية أُخرى، أكثر أهمية في شرحه حتى الآن: في أن الاحتلال غير مقبول من أي دولة في العالم واستمرار وجوده سيوقع على إسرائيل سلسلة من العقوبات والمقاطعات التي سيكون ثمنها أشد من الاحتلال.»
وأما المسؤول الرفيع في وزارة الخارجية، يوفال دوتام فقد اعتبر الخطوة الفلسطينية في زيورخ « بداية المعركة الدبلوماسية الجديدة للفلسطينيين لنزع الشرعية عن إسرائيل في حلبات جديدة مثل الرياضة والعلوم والثقافة ويجدون تجاوبا في الهيئات الدولية ما يحتم علينا إيجاد آليات جديدة لمواجهة هذه الدبلوماسية الجديدة.»
اهمية الجدل الدائر في دولة الاحتلال وما يعكسه من قلق يصل حد الخوف ودعوات ضرورة التعامل الجدي معه، انه يأتي على رأس اندحارات عديدة شهدتها على المستوى الدولي إنْ في الهيئات الرسمية والمنظمات والمؤسسات التابعة لها، أو في الهيئات والمنظمات المجتمعية الوطنية، أو في الاعترافات الرسمية بدولة فلسطين من دول محددة وبرلمانات كثيرة. وانه يأتي ايضا بعد المستوى الذي وصلته حركة المقاطعة وانتشارها الواسع عالمياً وتخطي عدد لجانها الآلاف، وان نشاطها يغطي مجالات عديدة اقتصادية وثقافية وأكاديمية وفنية وصولاً الى معاقل إسرائيل من الصحف العالمية.
فلم يكن يخطر ببال دولة الاحتلال يوماً، ان تفتح صحف رائدة كـ «نيويورك تايمز» صفحاتها لمؤيدي المقاطعة، أو ان تقدم الجامعات منابرها لدعاتها. ولا ان تقبل عضوية فلسطين، رغما عنها، في العديد من المنظمات الدولية.
ولم يخطر ببال دولة الاحتلال أيضا ان يأتي اليوم الذي ينتقد فيه رئيس أميركي أداءها، ويلوم رئيس حكومتها، كما فعل الرئيس أوباما في مقابلته مع القناة الثانية الإسرائيلية في 3حزيران الحالي حين قال: «مصداقية إسرائيل يمكن ان تصبح موضع شك بسبب شروط رئيس الوزراء نتنياهو في خوض عملية مدروسة تقود الى دولة فلسطينية» و «ان موقف نتنياهو فيه تحفظات كثيرة وشروط كثيرة تجعل من غير الواقعي التفكير ان هذه الشروط سيتم تلبيتها في اي وقت في المستقبل القريب». وأضاف «ولهذا فالخطر ان إسرائيل ككل تفقد المصداقية.»
صحيح تماما، ان هذا الحال الذي وصلت إليه دولة الاحتلال ليس نهاية المطاف فما زال الحال بعيدا عن ذلك.
وصحيح ان العامل الأساس للوصول الى هذا الحال هو طبيعة الكيان غير الطبيعية. إضافة الى أسباب أساسية أُخرى أهمها استمرار احتلاله ومجموع سياساته العنصرية والاستيلائية الاستيطانية، والقمعية والتمييزية المناهضة لحقوق الإنسان.
وهو ما لم يعد العالم يقبل به ولا يقبل باستمراره.
لكن صحيح تماما، ان هذه العوامل لم تكن لتفعل فعلها وتعطي بواكير نتائجها لولا الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني وتمسكه بحقوقه الوطنية متحملا كل أشكال العسف والاضطهاد والتشريد.
وصحيح أيضا، أن ذلك لم يكن ليحصل بدون الحركة السياسية والدبلوماسية النشطة واسعة المدى ومفتوحة الأفق والمجالات التي خاضها الشعب الفلسطيني على أساس ما تقدم ذكره، بما يسمح أن يطلق عليها «مقاومة سياسية ودبلوماسية». خصوصا وأنها تنسجم وتتكامل مع مقاومة شعبية نشطة ومتعددة الأوجه تدور على ارض الوطن.
وهذا ما يؤكد السياق الطبيعي للعلاقة بين أشكال المقاومة المختلفة وتكاملها الدائم وإمكانية تقدم أولوية احدها في ظروف وأوضاع معينة، محلية كانت او خارجية.
[email protected]
أضف تعليق