شاهدت ثلاث حلقات من هذا البرنامج الذى تضاربت الأقوال عن أسباب منعه، فبينما وقف البعض ضد صاحبته، ريم ماجد مدعيا أنها غير وطنية، كارهة للسلطة «النزيهة» بدون مبرر، وتنفذ «أجندات» فى مستوى الشبهات.. وجد البعض الآخر، فى المصادرة أو التأجيل، دليلا حاسما على الاتجاه نحو الفاشية، وحلقة فى سياسة تكميم الأفواه. أما نحن، الطرف الثالث،
وأقصد به الطرف المتابع ـ وليس الطرف الثالث الغامض، إياه ـ فإنه لم يتلمس أو يتبين، بما فيه الكفاية، ملامح وتوجهات «جمع مؤنث سالم».
الحلقات الثلاث، يجمعها أسلوب واحد، يعتمد على اللقاءات الإنسانية، بعيدا عن الجماليات الشكلية للاستوديو فى برامج «التوك شو».. الأماكن هنا، هى ساحات العمل، والمذيعة، كعادتها، تتعايش بألفة، مع ضيفاتها، سواء بالملابس البسيطة، المتسقة، التى ترتديها، أو بتفهم القضايا المثارة، أو باحترامها وحنوها على عناء وآمال بطلاتها، القادمات من قلب الحياة.
معدة البرنامج، كاتبة السيناريو النابهة، صاحبة «ذات» و«سجن النساء» و«واحد صفر»، مريم نعوم، تعاملت مع الحلقات كعمل فنى وليس مجرد لقاءات تليفزيونية، فهى، تستخدم اللقطات الوثائقية، الصور الفوتوغرافية، الشخصيات الثانوية، عدم التقيد بمكان واحد، والواضح أن المخرجة، رشا الكردى، باختياراتها الموفقة لزوايا التصوير، واستخدامها الدرامى للمؤثرات الصوتية والموسيقى المصاحبة، منحت العمل مذاقا فنيا واضحا.
فى الحلقة الأولى، تلتقى المذيعة بالسيدة شهيرة محرز، الباحثة فى المهن التقليدية، الشغوفة بالأزياء الشعبية، بألوانها الزاهية، فضلا عن المعمار الذى أبدعه المصريون عبر التاريخ، وتتعمد ريم ماجد ارتداء ملابس ذات طابع تراثى، ويدور الحوار المستفيض داخل معرض شهيرة محرز، مدعوما بصور فوتوغرافية لجلابيب الفلاحات، المحتشمة، المنفتحة على الحياة، التى لا تعيق العمل.
تنتقل الحلقة الثانية إلى المصورة الصحفية، إيمان هلال، التى عاشت، بوجدانها، وكاميراتها، الثورة وتداعياتها.. تحكى، بانفعال هادئ وعميق، عن تطور علاقتها بالمهنة، وتبين، بجلاء، قيمة الصورة كوثيقة دامغة تقبض فى لحظة، على كل الأطراف، هى الشاهد الحاضر على الجريمة، ذاكرتها لا تبهت أبدا. وهى دليل إدانة لا فكاك منه، لذا، فالبعض مصاب بما يمكن أن تسميه «فوبيا التصوير»، ضابط الشرطة، أيام الثورة، حطم كاميرتها، ولكمها، وها هى صورتها، أمامنا، بعين متورمة، منتفخة الجفون.. وفيما بعد، تعرضت للبطش، على يد مجموعة من الإخوان، أثناء فض اعتصام رابعة.. ثم كان عليها تصوير عشرات الجثث المخضبة بالدم، الملقاة على الأرض وقد وضع فوقها ورقة تعريف مكونة من كلمة واحدة «مجهول».
تتوالى الصور، مثيرة للذكريات والعواطف، مبللة بالأسى، مثل وجوه الشباب وقد فقدوا بصرهم، ومن جديد، تطالعنا صورة الفتاة المسحولة فى ميدان التحرير.
كما فى التراجيديات، ثمة مشاهد ترويحية، تخفف من ثقل الأحزان، تطالعنا ريم ماجد، حاملة معها بالونات ملونة، وسط مجموعة من صديقات إيمان هلال، فى مركب يتهادى على صفحة النيل، هن مصورات أيضا، يتحدثن، بثقة وثبات، عن تجاربهن التى قد تكون قاسية، ولكنها تنبئ بنصر أكيد، حتى لو كان مؤجلا.. إنها حلقة أقرب للعمل الفنى، جميل ومحترم.
أما الحلقة الثالثة، فإنها تتوغل فى أحراش الحياة، يبدأ بالمذيعة تسير فى أحد الممرات بين عمارات وسط البلد، حيث المحال الصغيرة والمقاهى.. تتجه نحو صديقتها الشابة «دهب»، صاحبة مطعم متواضع، ضيق، مناضده فى الخارج. الحوار بينهما لا يأتى على نحو تقليدى، لكن يندلع مفعما بروح المشاكسة العذبة بين صديقتين.. ريم ترتدى مريلة العمل فوق ملابسها البسيطة، تنخرط فى إعداد المكان، ثم تقشير البطاطس، ولا يفوت «دهب» انتقاد طريقتها فى التقشير، ذلك أن القشرة سميكة، تذهب بجزء من البطاطس.. «دهب»، الحاصلة على بكالوريوس التجارة، بعبارات قليلة، بسيطة وصادقة، تحكى عن حياتها: رحل والدها مبكرا، تحايلت على الحياة بهذا العمل الشريف، وجدت من يقف بجانبها، فى مقدمتهم الأب البديل، الرجل الطيب، فؤاد مهران، الذى منحها جزءا من المقهى.
تدخل الحلقة فى لعبة «تبادل الأدوار»، فبينما تتمنى ريم ماجد أن تكون صاحبة مطعم صغير، تتمنى «دهب» أن تغدو مذيعة.. تصحبها ريم إلى استوديو متواضع لإجراء اختبار: «دهب» مذيعة وريم الضيفة.. طبعا، بمرح، تثأر ريم مما فعلته «دهب» معها، توجهها، بطريقة لا تخلو من قسوة رقيقة إن صح التعبير.. «دهب»، اسمها أصلا منال، سميت بالاسم الآخر تيمنا بفيروز، بطلة فيلم «دهب» الذى كان يعرض يوم ولادتها.. هى على قدر كبير من الثقافة، تعشق صلاح جاهين، تكتب الشعر، قلبها يمور بالآمال.. إنها حلقة ذات طابع آسر، تتغنى، جوهريا، بقدرة الفتاة المصرية على مواجهة الحياة، والمساهمة فى صنع مستقبلها.
«جمع مؤنث سالم»، الموءود، يستحق البقاء، يدين الرعديد الذى بطش به، والذى سنعرفه، عاجلا أو آجلا.
[email protected]
أضف تعليق