دون تردد، تجاوبت مع دعوة نساء العراق حضور منتدى «أربيل» حول «النساء تقاوم التطرف». تحدوني رغبة غامضة في الذهاب نحو مجاهيل العراق ومعلوماته، على عنوان جاذب جريء، والتعرف على تجربة كارثية عن كثب، فلسطين جزء من النقاش، عدا عن هدف استنهاض مشاعر وأشكال التضامن مع بلد يتوجع صباح كل يوم.
بصوت رجراج تبدأ «نور» إحدى الناجيات من قبضة «داعش» رواية قصتها: «كنا مائة وخمسين فتاةً في مدرسة القرية، أخذوا الذهب والهواتف ومفاتيح السيارات، اختار الأمير اربعاً منا لنفسه، ومن ثم دخل باقي «الدواعش» ليأخذ كل منهم من يشير اليها بيده.
وتستطرد نور «ضربني الداعشي حتى تورمت فاقدةً الوعي. بسبب مقاومتي، وبعد أن صحوت رأيت انه قد اغتصبني». وتقول الثانية: «اسمي «الهام» وأبلغ من العمر خمسة عشر عاماً، لقد بقيت بقذارتي لرفض «الداعشي» مدّي بالفوط الصحية أثناء دورتي الشهرية». وتكمل: «اختارني الرجل السبعيني بواسطة القرعة، سحب ورقة تحمل اسمي من وعاء كبير، دافعت عن نفسي فضربني، وبعد ذلك قام ببيعي إلى أفغاني، والأخير باعني إلى كردي، كنت أرى تسليم النقود».
«النساء تقاوم التطرف»، عنوان تبادر نساء العراق إلى وضعه على الطاولة، وهو حق مشروع لهن، حيث اكتوين بنار الإرهاب. لقد بدأ «كرنفال» التنكيل من بلاد الرافدين، فاصطبغت مياه دجلة مرة بالسواد، حين رمى «هولاكو» مكتبة بغداد في النهر الصامت، واصطبغت بالأحمر، بارتفاع منسوب الدماء على المياه.
في الزمن العربي الرديء، موجات بدائية همجية تغزو العراق، مفجرة صراعات دينية طائفية وقبلية وإثنية بهدف تغيير تلاوينه. حالة من جنون الدم، ورغبات افتراس بوهيمية لا تبقي ولا تذر، وتوضع النساء في دائرة الاستهداف كالعادة، كإحدى أدوات الانتقام والثأر والتركيع.
في «أربيل»، نقاش جدي حول دور النساء في مقاومة التطرف والإرهاب، عنوان جديد لاشتقاق أشكال مشاركة النساء لحماية أنفسهن من أسراب الجراد الداعشي. النقاش يدور بينما «داعش» لا تبعد أكثر من أربعين كيلومترا عن المكان، بينما نستمع إلى شهادات المغتصبات والنازحات والأرامل والمفقودات والمجهولة مصائرهن، خلال المنتدى وخلال زيارة مخيم لاجئي الموصل. شهادات تضغط على المؤتمر، وتحمله المسؤولية اتجاه الضحايا، بينما الصراع يتصاعد لتحقيق السيطرة وبناء نظام «داعش»، مسبباً نزوحاً داخلياً لأكثر من أربعة ملايين مواطن ومواطنة، أكثرهم من النساء والأطفال، يهيمون على وجوههم، أياماً بلياليها، وسط تهديد ومخاطر الخطف والسبي والاغتصاب والبيع والاتجار، وإجبار على ممارسة الدعارة، فقراً وضياعاً.
أوّل ما تحتاجه محاربة التطرف الشجاعة والقناعة، والذهاب نحو استراتيجية التغيير الاجتماعي والفكري. ومشاركة النساء في المواجهة تتطلب توحُّد النساء والرجال للعمل معاً كقضية مجتمعية، لكون التطرف لا يستهدف النساء فقط، وإن طفت قضيتهن على سطح الصراع، بل يستهدف المجتمع وثقافته الإنسانية وإخضاعه بأسره لأيدولوجية قمعية إقصائية وتمييزية.
اذا ما أُريد للمرأة أن تقاوم التطرف، فعلى الاستراتيجية ان تنتصر وتنفذ عملية التمكين الاقتصادي والسياسي، فالتطرف يرافق الفقر. وكذلك تمكين المرأة من الولوج إلى مراكز القرار للإسهام بطرح رؤيتها لمقاومة الفكر الظلامي، بالثقافة والتعليم. فقد كانت البيئة بخير عندما كانت المراكز والمنابر الثقافية منتشرة بكل الأشكال.
كما يتطلب حمل قضية التغيير الشامل دون تجزئة، والابتعاد عن اجتراح سياسات إصلاحية، تحسين وتجميل البشاعة. كما لا بد للاستراتيجية أن تتعامل مع حقيقة التنوع، تنوع الأعراق والأديان والقوميات والمذاهب والطوائف، الأزياء والألوان، احترامها والتعايش فيما بينها وليس قمعها، والعمل على المصالحة والتماسك الاجتماعي. فالعراق غني بتنوعه وتعدديته، مسلمون ومسيحيون، سنة وشيعة، عرب وعجم وتركمان وأكراد، أشوريون وكلدان وإيزديين وشتاك وغيرها كثير.
الأجندة لا بد لها من التعامل مع تدخلات الوقاية من الحدث قبل وقوعه، الانذار المبكر. فـ «داعش» لم تنشأ خلسة، بل نمت وترعرعت تحت البصر. ووجدت دفيئاتُها البيئةَ المحيطة باعتبارها بيئةً رجعية، فالتطرف له حوامله الداخلية، المدارس والجامعات، المناهج الدراسية والثقافة السائدة. وضع الاصبع على الجرح، العمل على تنقية البيئة العامة المحيطة من شوائبها الرجعية، وتغيير القوالب النمطية من خلال وسائل الإعلام الجماهيري، دون ازدواجية الرؤى والرسائل.
كما تتطلب مقاومةُ الإرهاب، إذا ما استهدفت مشاركة النساء، التركيز على أبعاد المواجهة الفكرية والثقافية، ووجود رؤى بديلة للمستقبل. لكون العنف الممارس ضد النساء ذا جذور فكرية وثقافية، وينبغي للمواجهة عدم المساومة على الحقوق الكاملة والمتساوية، بالدستور والقوانين، بديلة للفكر العشائري الذي يعتبرها كأحد أملاكه الخاصة.
ينبغي عدم الاختفاء خلف اصبع الخصوصية الثقافية المعيقة للتغيير، فقد قوي التطرف والإرهاب بسبب الظلال الداكنة المحيطة بمساحات المرأة، ولاعتبار الخصوصية الثقافية تخص المرأة ومظهرها، وبسبب الحكم عليها بالبقاء إنساناً «قاصراً» مدى الحياة وأنثى الى الأبد. لقد تغلغل التطرف عندما سُميت قشور الدين بالصحوة الدينية.
في بلاد العرب أوطاني، النساء في خط المواجهة الأول، لذا عليها ان تكون في خط الدفاع عن الحدود الجغرافية والفكرية.. لقد بدأ الصراع الدموي من العراق ويجب أن يقبر الغزاة فيه..ولأن المنطقة ذات ثقافة سائدة بغض النظر عن اسماء الغزاة، فقد آن الأوان، فلسطينياً، التوجه نحو طريق التغيير الاجتماعي.
[email protected]
أضف تعليق