كان القرن التاسع عشر قرن الاستقطاب والصراع الطبقي طبقة ضد طبقة، طبقة العمال التي ولدت من رحم الرأسمالية، البروليتاريا مقابل بارونات الصناعة او البرجوازية، التي انبثقت نفسها عن الثورة الصناعية في مواجهة بقايا ملوك الحق الإلهي والثيوقراطية آخر ممثلي الامبراطوريات الإقطاعية القديمة في القارة الأوربية.
وعلى الضفة الأُخرى في القارة الأميركية الجديدة، الصراع بين العبيد السود والأحرار البيض. وقد استهل القرن بالحروب النابليونية وانتهى بمقتل الرئيس الأميركي ابراهام لينكولن، الذي دعا الى إنهاء العبودية وبالحادثة الشهيرة التي تخلد نضال عمال مصانع شيكاغو، لتحقيق مطالب الطبقة العاملة بجعل ساعات العمل محدودة بثماني ساعات، والتي انتهت على نحو مأساوي بإعدام 5 من زعماء هذه الثورة النقابية العمالية الأولى، لتجرؤهم على القيام بهذه الثورة ضد أسيادهم الرأسماليين.
وقد تفتقت في غضون هذا القرن المشبع بروح الثورات، عبقرية رجل ألماني يدعى كارل ماركس ليرى في هذا التحول التاريخي متمثلا بولادة الطبقة العاملة، على أنها الطبقة التي ستأخذ من الآن على عاتقها مهمة الرافعة التاريخية للتقدم، بإعادة تصحيح التاريخ عبر القضاء على آخر إفرازات هذا التاريخ الإنساني لأنماط استغلال واضطهاد الإنسان لأخيه الإنسان، متمثلا هذا النمط الأخير بالرأسمالية المتوحشة، الوريث التاريخي في تسلسل متعاقب لطبقة الأسياد الأحرار والعبيد زمن الامبراطوريات الإغريقية والرومانية القديمة، وعصر الإقطاعيين وأقنانهم الفلاحين. ورأى ماركس في بيان شهير اصدره ورفيقه الانجليزي فريدريك انجلز العام 1848، ان على هذه الطبقة ان تتحد فيما بينها في جميع البلدان الرأسمالية وان تنشئ حزبها الثوري الذي يتسلح بنظرية ثورية، و تخوض نضالا لا هوادة فيه من اجل تحطيم النظام البرجوازي، وان تقيم على أنقاضه ديكتاتوريتها البروليتارية ونظامها الاشتراكي الذي تقضي فيه على كل أشكال الملكية الخاصة، مقدمة كمرحلة تمهيدية وانتقالية للدخول في النظام الشيوعي الذي يعني نهاية التاريخ، في صورة تعيد إنتاج المشاعية الإنسانية الأولى التي تقابل جنة عدن او الفردوس المفقود في الأساطير الدينية، سعياً وراء تكوين صورة زاهية عن الإنسان اللاعب واللاهي والذي يشبه في سعادته الآلهة.
لكن ذاك كان قرناً حالماً حتى لكأنما أميركا بدت وكأنها هي الحلم، وارض الأحلام السعيدة. حين بدت السكك الحديدية التي شيدتها الرأسمالية عند أواخر القرن كما لو انها هي المعجزة على الأرض، وبخلاف تصورات ماركس عن انتصار الثورة الاشتراكية في بلاده ألمانيا أولا، فان انتصارها جاء في اكثر البلدان الرأسمالية تخلفاً وتأخراً في التطور، اي في روسيا اضعف حلقات الرأسمالية تقدماً. وهو الحدث الذي لم يعش ماركس ليشهده واختلف تلامذته حول إمكانية نجاحه.
ولكن هذا الحدث الافتتاحي في القرن العشرين ما كان له من دلالة اخرى، سوى انه كان المؤشر والإنذار على ما سيشكل لاحقاً على امتداد القرن العشرين، التحول نحو هيمنة الصراع الأيدولوجي وصراع الأفكار، حتى بدا كما لو ان هذا الصراع بين هذه الأيدولوجيات المزدهرة التي طفت على السطح مرة واحدة، قد حلت مكان الصراع الطبقي في القرن الماضي. وقد انتهى هذا القرن العشرون كما نعرف بانتهاء الأيدلوجيات المتصارعة، الشيوعية كما النازية والفاشية والشوفينية القومية، باستثناء الليبرالية الرأسمالية. ما دعا مؤرخاً ومنظراً أميركياً من اصل ياباني، ان يكتب عند نهاية هذا القرن مقالة شهيرة عن نهاية التاريخ على نحو لا يخلو من نشوة احتفالية بالنصر، انتصار الرأسمالية على الشيوعية.
أين ذهبت اذا عند مستهل القرن الواحد والعشرين الذي نطرح عند بوابته هذا السؤال عن جميع تلك التصورات والرهانات، حول المهمة التاريخية للطبقة العاملة؟ بل وأين ذهبت هي نفسها هذه الطبقة العاملة؟ وأين أحزابها الآن وأفكارها وماذا تبقى من ارثها النضالي؟ بل وما هو تعريفها الآن؟ ووعيها بذاتها ولذاتها؟ وأين هم الآن أولئك البرجوازيون الصغار والمثقفون العضويون ومنظروها ودعاتها من أمثال لينين وغرامشي وروزا ليكسمبورغ وتروتسكي وصولا الى خالد بكداش السوري وجورج حبش ونايف حواتمة؟ وهذا الأخير الذي بقي منهم على قيد الحياة ليمد الله في بقائه وعمره.. الرفيق العزيز ابو النوف وليعطه الصحة.
لقد ذهبوا جميعاً واختفوا هكذا كما لو انهم كانوا يؤدون دوراً مشوقاً في سهرة مسرحية في ساحة القرية القديمة بالأمس، ثم أفاق العمال عند الصبح وحملوا كل الأمتعة والأدوات ورحلوا مزيلين اي اثر خلفهم يدل عليهم سوى بقايا الأحلام التي تركوها وراءهم. لم يبق من اثرهم وحضورهم الماضي على مدى القرنين الأخيرين، سوى يومهم في كل عام في الأول من أيار. اما هم انفسهم فكيف يمكننا التعرف عليهم كما يمكن ان نتعرف الآن او نميز بين الخيط الأبيض من الأسود، في هذه الشيوعية الباقية الى يومنا وهي تلتحم بهذه الرأسمالية الشرقية، وتبدو في اكتساحها واحتلالها كل العالم كما لو انها التنين الخرافي العظيم، والذي يجعل من قرننا الحالي قرنا ملونا بلونه الأصفر.
ان الذي جعل من الأيديولوجيا الشيوعية والحزب الشيوعي يتماهى مع الرأسمالية في مزيج مركب عبقري وفريد، انما هو الذي يجعل من ثاني أكبر حزب رأسمالي في بريطانيا يحمل اسم الطبقة العاملة، بروليتاريا كارل ماركس ولينين القديمة، والذي يحدث هنا وهناك هو ان شيئا لا يتغير، وإنما يتحول وهنا حدث أيضا كما في مسخ الكائنات وتحولها التحويل العظيم الذي طرأ عليها.
لقد تحولوا جميعا او تم مسخهم كما كان يحدث زمن الأساطير القديمة، فلا العمال ذوي الياقات الزرقاء وحتى البيضاء اليوم يشبهون البروليتاريا الرثة التي تحدث عنها كارل ماركس ولينين، وقالا بانها لا تملك شيئاً تخسره سوى أسمالها الرثة. والرأسمالية البرجوازية اليوم لا تشبه برجوازية القرن التاسع عشر بالأمس، والتي وان ظلت تحتفظ بقسوتها ووحشيتها القديمة، الا أنها وقد استبدلت سيطرتها الصارخة والفظة وخشونتها الماضية بالسيطرة الصامتة والناعمة، فإنها استطاعت في غضون هذه الحقبة الطويلة من حكمها العالم، ابتكار أدوات مواصلة هذه السيطرة، بوسائل اكثر تماشيا مع روح العصر، اقرب في جاذبيتها الى ان تكون صورة عن جاذبية الأغلفة والإعلانات التي تروج من خلالها لبضاعتها.
واذ برهنت هذه الطبقة الأخيرة التي تسيدت على عالمنا، على أنها اكثر قوة وديناميكية في القدرة على التكيف والابتكار وإعادة تجديد نفسها، متجاوزة أزماتها الدورية نفسها كما لو أنها عنقاء هذا الزمان أو قدر البشرية، وهو ما لم تستطع امبراطوريات النظام الإقطاعي تحقيقه، فإنها بالأخير هي من حققت شعار ماركس عن الرفاه الاجتماعي وجنة عدن المصطنعة في بلدان المركز مهد الرأسمالية وموطنها الأول.
فيما بقي شعار «يا عمال العالم اتحدوا» متحققا على ارض الواقع في اطار واقع جديد كليا، قوامه توحد البروليتاريا القديمة في اندماجها الكلي في بوتقة النظام الرأسمالي، بعد أن استطاع هذا النظام إعادة توحيد وصهر وتكييف العالم بأسره في عقل واحد هو العقل الرأسمالي كلي القدرة والجبروت. فهل كانت كتابات جورج لوكاش المتشائمة عن تحطيم العقل العالمي القديم، والمؤرخين الأوروبيين عن سقوط الحضارة عند منتصف القرن العشرين، تحمل قدرا من النبوءات او الحدس التاريخي الأسود؟ بهذا التحول الأخير الذي يجعل من العالم أشبه بإسفنجة تتحكم بها الرأسمالية المعولمة كيف تشاء وصولا الى دمار العالم.
لقد أعادت الرأسمالية في كل مكان وصلت إليه بضاعتها خلق العالم على صورتها، اذا تحولت البشرية جمعاء الى جيوش من القطعان الهائلة اللاهثة وراء نزعة الشراء واستهلاك البضائع، التي لا حدود لتنوعها. فان الوظائف ثم الوظائف ثم الوظائف كما لو جورج بوش الأب بالمحفظة أمام ناخبيه، كما القروض البنكية أصبحت هي حبل النجاة الوحيد، لملايين العاملين العاطلين عن العمل. وبات الحصول على حق العمل في ظل النظام الرأسمالي هو الامتياز الوحيد. اما الحصول على موطئ قدم في بلاد المركز بالنسبة للملايين في بلاد الأطراف، فقد تحول لان يكون هو الحلم الجديد الذي يمكن المخاطرة بالحياة غرقا في البحار من اجل تحقيقه.
فما الذي بقي من اثر الحلم القديم في الأول من ايار لذاك العامل، من قادة وزعماء الثورة العمالية في مصانع شيكاغو العام 1886 في الأول من أيار؟ والذي حكم عليه بالإعدام وتقبل هذه التضحية بحياته بشجاعة ورباطة جاش، كرمى لتحقيق حلمه الذي جسد في ذلك الزمن حلم وطموح طبقة بأكملها، في التحرر من العبودية الجديدة في زمن صعود الرأسمالية التاريخي. وكان يكفيه ان يكتب له ابنه رسالة فخورا بمجد ما صنعه.
[email protected]
أضف تعليق