على احدى الهضاب , هناك في الجليل , كان موقع جميل ومتواضع يعني اسمه بالعربية السريانية : النور , الشروق .
بالطبع كانت هناك اشراقات جليلية جميلة , بالنسبة لسكان مستوطني "حوسن" و "تسورئيل" ولزوار بحيرة "مونفورت" وسكان الأحياء الشرقية من بلدة "معلوت" – فما زالت في تلك الخرائب اشراقات كهذه . اذ ان جبال الجليل هي منطقة جميلة وخضراء.
وفقط بالنسبة لمهجري سحماتا , انطفأ النور ولم تعد تطل عليهم اشراقات , حتى ما قبل حرب الاستقلال كان هناك اناس اّخرون , اهل سحماتا . اكثر من الف منهم تشتتوا الى كل الجهات خلال تلك الحرب التأسيسية . انهم مشتتون لكنهم لا ينسون , مهجرون منزرعون .
عندما بحث ابنائي عن جذور , جاؤوا الى والدي وطلبوا منه حدثنا عن "درزدن" , وسمعوا من والدتي الف مرة حكايات عن الخليل . اولاد وأحفاد تلك القرية جاؤوا الى شيوخهم وسمعوا حكايات جذورهم . اولادنا اقل شوقا وحنينا لان في موقع الخراب تأسست لنا دولة فيها أماكن بديلة وذكريات متجددة . لأجيال ما بعد النكبة لا يوجد حتى الاّن بديل , والحنين والأشواق والذكريات هي اصلا مناظر الوطن بالنسبة لكثيرين منهم , ذكريات تأبى التلاشي والزوال.
تجولت قبل حين في مشهد رافض كهذا ليس في الجليل , بل في قلب تل ابيب , في صالة "منشر" عرضت رسومات وصور ابدعها ايلين خوري ويعقوف حيفيتس , وموضوعها "سحماتا... صدى الفراغ وهواجس عن ضربات الزمن " . خوري وحيفتس يبعثان من الموت قرية لا وجود لها بعد. مع حكايات لعائلات وأحلام غضة. بقلم رصاص متردد وقماش قديم – اعادا المكان للحظة , وبعثا الحياة في اهله وروائحه . المعرض في طريقه من تل ابيب الى حيفا , والأسئلة المأخوذة منه لا تنقطع عن التحليق في اجوائنا , طالبة بالحاح ان نبدأ بالاجابة عليها .
للحظات تتجول ايلين خوري , وحيفتس المختبأ خلف الكاميرا , بين شعاب الخرائب الباهتة . يحاولان العثور على الموقع الدقيق لبيت الاسرة , احيانا تقف ايلين وهي ترتدي الملابس السوداء , وظهرها الى الكاميرا , بينما وجهها الى حائط الكنيسة المهدمة . تقرأ علينا هويتها الغنائية الشاعرية , وهوية البيت والقرية واللجوء الفلسطيني كله , وعلى وقع هذا المسهد يحلق بتناغم وانسجام النجاح الاكبر للسيدة خوري . انها ابنة لاجئين كونت اسرة من قلب الخواء والفراغ . ابنها هشام يملأ بكمانه فضاء الصالة بأنغام مقطوعة كمان للموسيقار " باخ " , وثلاثتهم هشام وأمه وباخ – يمالئون مقولة الموسيقار اليهودي " يهودي منوحين " اذ قال ان " الموسيقى تفرض نظاما من قلب الفوضى والإيقاع يفرض الوحدانية والانتظام على الاختلاف , والمغناة تفرض الاستمرارية على الانقطاع " . هذا رغم انهم ليسوا يهود , ولم ينعموا تماما بالهدوء والراحة !
انقلاب عام 1948 كان انجازا م}ثرا لليهود , ومأساة رهيبة للفلسطينيين . وأسئلة خوري وحيفتس لا تتطلع بشوق الى ماض غير متخيل فحسب , بل هي تسعى ايضا الى تحدي الحاضر . وبأدوات فنية وتعبيرية يتساءلان عما اذا كان الماضي هو المفتاح الاوحد لمستقبلنا المتشابك . الم يحين الوقت للاعتراف بالألم ؟ ولإيجاد وسيلة شفاء اخرى غير تلك التي تقول : اما كل شئ او لا شئ , كل شئ لنا ولا شئ لهم ؟؟؟
النكبة الفلسطينية هي جزء من استقلالي. على خرائبهم بني وطننا القومي . هل يجب ان تستمر هذه الحال الى الابد ؟ قطعا لا . صحيح انه لا يمكن اعادة عجلة الزمن وعقارب الساعة الى الخلف , ويصح اكثر ان ندرك انه يستحيل اصلاح وجور الماضي بصنع غبن وجور الماضي بصنع غبانة جديدة . لكن بين هذا وذاك , هناك سلسلة كاملة من الامكانيات والاحتمالات , تبدأ جميعها بخطوة واحدة من الوعي – هي الاعتراف . وبعدها يأتي تموضع الحيز الفلسطيني الذي كان داخل الكل الاسرائيلي المتشكل , وفي نهاية الامر يبدأ الحوار الحقيقي بين اسرائيل – الدولة والمجتمع – وبين مواطنيها , الذين يتوفر للكثيرين منهم بيت يؤويهم , لكنهم " متشردون " في دولتهم . كل انسان يستحق اشراقات جميلة , ولكل مواطن الحق في ذكريات . وعلى الدولة يقع واجب واحد : ان تكون ملكا للجميع , حتى لو كان تأسيسها مصحوبا بالغبن والظلم والإجحاف للبعض>
[email protected]
أضف تعليق