التصور السائد حالياً في الخطاب السياسي والاعلامي العربي حول خلفيات الصراع مع إيران، يظهر وكأن هنالك نظاماً سياسياً عربياً يدافع عن مصالحه القومية في وجه خطر إيراني يلعب على وتر الاقليات والطائفية في كل من لبنان وسوريا والعراق واليمن بهدف نشر التشيّع وتحقيق سيطرة اقليمية سياسية. وهذا ما يحتاج لتفكيك ونقد لتاريخ مفارقات غريبة تقع دون ترتيب، ولكنها تعيد تشكيل حياتنا بدقة سرد روائي محترف. ففي الوقت الذي كان فيه النظام السياسي العربي بزعامة عبد الناصر في مواجهة فعلية مع الغرب وإسرائيل، كان النظام الإيراني يدور في فلكهما.
وعندما قرر أنور السادات بأن «99% من أرواق اللعبة في يد اميركا» وبالتالي نقل مصر من معسكر الاعداء الى معسكر الأصدقاء وذهب الى اسرائيل لتدشين مرحلة جديدة، كانت قد وقعت الثورة الإيرانية التي بدورها دشنت مرحلة معاكسة ووضعت إيران في مواجهة مع الغرب. هذه المفارقة، الى جانب تحولات اخرى وقعت في السبعينيات أهمها الطفرة النفطية التي شهدتها دول الخليج، قد اسست للمرحلة والثقافة السياسية العربية السائدة اليوم، وساهمت في اعادة ترتيب موازين القوى داخل النظام العربي، وأسست لعلاقاته الخارجية وفق معايير ومصالح جديدة تفسر الى حد بعيد سبب حالة العداء مع ايران وطبيعة التحالفات العربية القائمة حالياً، بعيداً عن الكليشيهات التي يرددها جزء كبير من الاعلام العربي اليوم.
تميّز النظام السياسي العربي في الفترة الناصرية بكونه ذا مركز سياسي تقوده مصر، وله رؤية ومشروع يتجاوز حدود الدولة القطرية، وله فلسفة قومية تتجاوز الطوائف والاعراق. اي كان هنالك مشروع تحرري حداثي، وبالتالي كانت السياسة الخارجية سواء «للجامعة العربية» او للدولة تصاغ وتحدد الصديق والحليف من العدو بما ينسجم مع هذا المشروع واهدافه. ومن كان يحاول الخروج او الالتفاف على هذه الاهداف والرؤية كالنظام السعودي كان يعزل ويوصف بالرجعية والعمالة للامبريالية. فلم تكن كل الدول العربية كما نعلم راضية عن الناصرية وطموحاتها، ولكن كانت هنالك مركزية سياسية تتمتع بدعم الشارع من المحيط الى الخليج. بعد هزيمة 1967 ورحيل عبد الناصر كشخصية قومية كاريزماتية بلا منازع، وتوقيع مصر السادات على اتفاقية كامب ديفيد، ادى كل ذلك الى اسقاط المشروع القومي الحداثي برمته عن اجندة النظام العربي، بل هذا النظام نفسه بدأ مرحلة تفكك وتقلص حتى وصلنا الى مبدأ «الدولة القطرية اولاً». وعندما تزامن ذلك مع الطفرة النفطية وما نتج منها من تحولات اقتصادية، فإن موازين القوى داخل الجسم السياسي العربي بدأت تعتمد على الثقل الاقتصادي للدولة بغض النظر عن مشروعها السياسي. وهو ما دفع بدول الخليج من الصفوف الخلفية لتصبح تدريجياً ذات تأثير اقليمي، ولم يعد احد يجرؤ على وصفها بالرجعية او يعترض على سياساتها وتحالفاتها. وبذلك تمت اعادة رسم الخريطة السياسية العربية بكاملها وبشكل مختلف كلياً عما سبق تفكك النظام وغياب المشروع الجامع، سمح الكل دولة بأن تنطلق بسياساتها من نفسها ولنفسها، ولم تعد المصلحة العربية المشتركة معياراً أو شرطاً لتحديدها. وجاء توقيع السادات لاتفاقية «كامب ديفيد» وانفراط السبحة من بعده ليتبعه في هذه الخطوة ياسر عرفات والأردن، لتسقط «اسرائيل» ايضاً، عدوة العرب الاولى من محددات سياسات وتحالفات الدولة القطرية.
وقد كتب الكثير في ما بعد حول الطريق الذي اتخذته الدولة المتحررة من مركزية سياسية مشتركة ومن اطار مشروع قومي جامع. فقد انحدرت على كل الأصعدة الاقتصادية والسياسية والامنية، حتى تحولت لما تسميه الدراسات المختصة في هذا الموضوع «بالدولة البوليسية»، وتم اختزال النظام السياسي ليتمركز حول شخص الزعيم وزمرة قليلة حوله، وبالتالي حتى سياسات الدولة القطرية لم تكن من اجل مشروع وطني ينهض بمجتمعها، وانما من اجل ظاهرة «السلطان». وجاءت سياسات «الانفتاح الاقتصادي» التي غزت منطقتنا وتعززت بسقوط الاتحاد السوفياتي وتفرّد اميركا باقتصاد العالم، لتسمح بظاهرة زواج غير شرعي بين السياسة ورأس المال، وهي التي اوصلتنا لحالة من الفصل التام بين الشعب ودولته، او بكلمات ادق بين الشعب و«السلطان». اي انه بعد الانحدار من مركزية عربية الى دولة قطرية، انحدرت الدولة القطرية بذاتها لتصبح مجرد «سلطان».
وعندما يصبح اي نظام في اي بلد كان بلا هدف ومشروع ورؤية، وبلا مؤسسات تعمل وفق آليات ديمقراطية تنطلق من مصلحة الشعب اولاً وأخيراً، يكون ارتهانها للقوى الكبرى نتيجة طبيعية. وبذلك يكون النظام العربي بتنازله عن المشروع التحرري الحداثي، قد انتقل من حالة المواجهة مع الرأسمالية الى التبعية لها، وهو ما أفرز وعزّز ظاهرة تسابق «السلاطين» باتجاه القوة الوحيدة في العالم لا لشيء سوى لشراء الحماية وضمان البقاء بأي ثمن كان، وأصبح نفي العدائية مع اسرائيل سراً او علناً سلوكاً لكسب الود واعلان حسن النوايا. وللأسف فإن الدول العربية التي لم تدخل هذا السباق كالعراق وسوريا، لم تستطع في المقابل ملء فراغ او تشكيل بديل من المركزانية الناصرية، بل ارتكبت أخطاء قاتلة أثرت في مجمل الحياة السياسية العربية. وعلينا التركيز هنا على أن النظام بالمعنى المؤسساتي للكلمة قد غاب في كثير من هذه «السلطنات» بشكل شبه كامل، ولم يعد سوى هياكل تؤدي الحد الادنى من الأدوار الخدماتية، وهو ما ساهم في بروز وتقوية مؤسسات بديلة من مؤسسات الدولة لجأ اليها المواطن لانقاذ نفسه وتوفير احتاجياته، حيث أصبحت الطائفة والعائلة اشد اهمية في حياة الفرد من الدولة نفسها.
وهنا يحدث الخطأ او التشويه المقصود السائد في التحليلات السياسية والاعلامية حول السياسة الخارجية للدول او «السلطانات» العربية، حيث تهمل هذه التحليلات حالة الارتهان للخارج والتفكك من الداخل، وهما المؤثران الاساسيان في تحديد السياسة الخارجية. بل ان حالة التفكك الداخلي وخوف السلطان الدائم من لحظة انفجار الداخل في وجهه، دفعته لكسب ود الخارج باستمرار. من هذا المنطلق تنعدم المصالح المشتركة مع دولة كإيران، بل يشكل التقارب معها خطراً على هذه المصالح «السلطانية»، فإيران اليوم لها نظام سياسي يبحث عن مصالحه ويتعامل مع الغرب بندّية، رافضاً الارتهان له. بمعنى آخر، نحن في الحالة الإيرانية أمام مشروع انعتاقي يبحث لأمته عن مكانة سياسية وعلمية على خريطة هذا العالم، وهذا لا يمثل على الاطلاق قاسماً مشتركاً مع مشروع يتمركز حول بقاء وديمومة السلطان. وهو المنطق نفسه الذي قد يفسر طبيعة العلاقات العربية اليوم مع دول انعتاقية أخرى في أميركا اللاتينية. وهذا السلطان أيضاً قد حكم علاقته باسرائيل بمبادرة سلام طرحت عام 2002 ولا رجعة عنها، وقرر أن لا سبيل غيرها للتعامل مع هذا الكيان، وبالتالي فهو لا يمكن ان يلتقي في هذه النقطة بمصلحة مشتركة مع نظام مازال يرفض الاعتراف بإسرائيل ويدعم حزب الله والمقاومة الفلسطينية لمحاربتها. وبالتالي فإن التركيز على الطائفية وتصويرها كسبب اساسي للصراع مع ايران هو هروب من وجه هذه الحقائق السياسية. ايران كأي نظام سياسي في العالم تسعى خلف مصالحها ولديها طموحاتها السياسية والاقتصادية بلا شك، سواء على مستوى اقليمي أو دولي. وهي تتحرك في فراغ سياسي خلفه تفكك النظام العربي وانهيار الدولة القطرية وتسعى الى ملئه، كما سعت ومازالت تسعى الى ذلك تركيا. ولكن لا يمكن فهم هذا السعي الايراني كما يصوره الاعلام المتحكم به خليجياً، وبالتالي قبل شيطنة الآخر علينا النظر الى عيوبنا ونواقصنا، والا سنبقى ملعباً فارغاً يدخله من يشاء. لا وجود في العلاقات الدولية إلا لمن هو ندّ، وحتى تكون نداً عليك ان تكون صاحب مشروع وطني يستند الى مصالح أمة ولا ينطلق من رغبات سلطان.
* صحافي فلسطيني ـ باريس
[email protected]
أضف تعليق