خلفَ شاشةٍ الكترونيّة، أصابع تعمل بجدّ ساعيةً لحصد أكبر عددٍ من الإعجاب والتعليقات عبر مواقع التواصل الإجتماعي، إنّها ليست أصابع المغنيين أو الفنانين، او حتى الهواة من المراهقين، بل هي أصابع رجال الدين حين اختلفَ اسلوبهم من هيكلِ الكنيسة ومئذنة الجامع إلى التواصل الرقميّ.

لم تعُد منابر التواصل الإجتماعي حكراً على الشباب، أو عامة النّاس، بل أضحى رجل الدين نجماً "فيسبوكياً"، أو "تويترياً"، من خلال صفحتهِ العامة التي تتسع الآلاف من حول العالم، وفي المقابل تهافتت عامة الشعب على هذه الصفحات، فاحتلت الصفحة العالميّة الخاصة بالشيخ د.محمد العريفي، السعودي الأصل، رقم 4 من مجمل الصفحات غير المحليّة الأكثر إعجاباً من قبل الفلسطينيين.

في فلسطين، هناك أمثلة كثيرة على شيوخ وكهنة اتخذوا من الفيسبوك وسيلة لإكمال نشاطهم الديني، غير مكتفيين بالمنابر الدينيّة الإسلاميّة أو المسيحيّة، كالشيخ إياد قتيبي، د.محمود الهبّا ، الأب عطاالله حنا، و"الأب" جبرائيل نداف.. تطول الأمثلة والظاهرة تبقى للعلن متنوعةً بأسباب التواصل مع شريحة لا تقل عن مليون ونصف مستخدم فلسطيني للفيسبوك أغلبهم من الفئة العمريّة بين 24-19 عام.

ميزة بالمقلوب

يفسّر الشيخ د.إياد قنيبى وجود صفحته الفيسبوكيّة بثلاثة أهداف: جعل المسلم يعتز بدينه ويوقن بصحته، تعميق محبة الله تعالى والرضا به في النفوس، تصحيح المفاهيم.

وبحسب دكتور السياسات الدوليّة، في الجامعة العربيّة الأمريكيّة، أيمن يوسف، فإنّ ما يميّز مواقع التواصل الإجتماعي عن غيرها، من المنابر الدينيّة، هي كونها تتجاوز حدود الزمان والمكان، فتجد هذه الشخصيات الدينيّة في صفحات التواصل الاجتماعي، ما لا تجده على أرض الواقع من حرية التعبير، التواصل، ونشر الدعوة، متيحةً مساحة افتراضيّة لتجنيد الأنصار، بناء حملات الرأيّ العام، وإرسال رسائل للخصوم والأصدقاء.
ويتابع: "ولكنّ هذه الشخصيات الدينيّة أحياناً تسعى للوصول إلى موقع إداري أو سياسي من خلال الترويج لنفسها عبر الفيسبوك، وهي فرصة لصنع النجوميّة والمكاسب الشخصيّة بطريقة سهلة".

ومنها الصفحات المتعددة لِـ "الأب" جبرائيل نداف، مُروّج الخدمة المدنيّة والعسكريّة في جيش الإحتلال الإسرائيلي، لأبناء الطائفة المسيحيّة في الداخل الفلسطينيّ، فلم يقتصر ندّاف على صفحة واحدة موجهة لأبناء شعبه "نادي أصدقاء الأب جبرائيل نداف"- باللغة العربيّة، بل امتدت إلى 11 صفحة بلغات عالميّة متعددة (ايطاليّة، برتغالية، اسبانية، ألمانيّة، صينية، مالطيّة، فلبينيّة، انجليزيّة...).

تحتوي كل صفحة من الصفحات على "ناطق بلسان" مسؤول عن الصفحة، الأخبار، والتواصل، يتحدد وفق اللغة والدولة الموجهة لها الصفحة، فما إن تدخل جميع الصفحات حتى يتوحّد أمامك مشهد مكوّن من الصليب ونجمة داوود الزرقاء، ومنشورات باللغة العبريّة، ندرةً ما تجدها بالعربيّة –رغم عنوان الصفحة العربي والعبريّ معاً- إضافةً إلى أنّ الأخبار تعبّر عن أجندة صهيونيّة، كإحياء مجزرة "الهولوكوست"، والإحتفال بعيد الإستقلال، منشورة تحت رعاية "منتدى تجنيد الشباب المسيحي".

والهدف من تأسيس هذه الصفحات بعيد جداً عن أن يكون تواصلاً دينيّاً، أو حتى إجتماعيّاً، فالنصوص المنشورة فيه قلّما ما تكون دينيّة، فضلاً عن أن الناطق بلسان "الأب" للإعلام العربي رفض إعطاءنا أية معلومات عن هوية شخصهِ، مما يحتم علينا القول أنّ الفائدة الدينيّة والتواصليّة غير متحققتان، عدا عن أنّ من يترك تعليقاً لا يتوافق وسياسات الصفحة، يقومون بحذفه في غالب الأحيان.

يُعلِّق أستاذ الإعلام في الجامعة العربيّة الأمريكيّة، سعيد أبو معلّا، أنَّ رجال الدين عامةً يتناقضون مع طبيعة "الفيسبوك"، فهو يرتكز على خاصية الرأي والرأي الآخر، تنوع الأشخاص، والتواصل غير المعروف، وهذا نقيض الدعوة التقليديّة، فالنظرية الواحدة هي المُسيطرة بكون النّص الديني هو ثابت لا يتغير، فإن لم يكُن رجل الدين منفتحاً سيقوم بحذف أي شخص لا يتوافق معه، مضيفاً أنَّ أحد أكثر أحد الاستعمالات خطورة للدين هو مزجه بالسياسة، بكونها أكثر المواضيع التي يتفاعل معها الرأي العام ويتأثر بها.

هالة سوداء

في توضيح لمستشار الرئيس الفلسطيني للشؤون الدينيّة الإسلاميّة، د.محمود الهبّاش، على صفحتهِ الفيسبوكيّة العامة، بياناً للرأي العام نُشر في 29-3-2015: "عبارات أُخرجت من سياقها، لما جاء في خطبة الجمعة التي ألقيتها أمس، وأساء البعض عن قصد وربما عن غير قصد، فهم ما ورد على لساني.."، احتوى المنشور على 5 بنود تتعلق بقضايا سياسيّة حزبيّة بإدانة حماس، وقضايا عربيّة عالميّة، وهذا ما يؤكد أنّ الفيسبوك، إضافةً إلى الهيكل والمئذنة، هو منبر سياسي لأكثر من ديانة.

"طبيعة المجتمع الفلسطيني تخلط بين الدين والسياسة"، هذا ما يفيده استاذ السياسات الدولية، د.أيمن يوسف، مفسراً أن الرقابة تتراجع لدى عامة الشعب على ممارسات رجال الدين لأنّهم يعتبرون هذه الشخصيات الدينية جزء من الدين، فيأتي التسامح معهم تلقائياً لإمتلاكهم هالة وقار، وبالتالي عدم نقدهم، وهذا الصمت يدفع بهم إلى الجرأة والتطرف والمبالغة كون لا رقابة عليهم.

صفحة د.محمود الهبّاش، يتميز أسلوب منشوراتها بالتخوين وبعددها القليل، مُعرّفاً المعلومات الشخصية عن الهباش بخمسة كلمات "الدكتور محمود الهباش - أبو أنس"، واحتوت الصفحة على استعمال للوسائط المتعددة كفيديو لخطبة صلاة الجمعة التي ألقاها في مسجد التشريفات- مقرّ الرئاسة، فضلاً عن بعض التسابيح والأدعية الإلكترونيّة.

وصل الصلة

لم تقتصر الصفحات الدينيّة على ذلك، بل ابتعدت لتكون منبراً للعلاقات العامة، مُسخرةً موقع التواصل الإجتماعي لنشر الأخبار الإعلاميّة، لما يقوم به رجال الدين من نشاطات إجتماعيّة، صلوات، وزيارات، كما نرى في صفحة سيادة المطران عطاالله حنا، حيث أنّ جميع المنشورات هي أخبار بصيغة صحفيّة بحت، وبأسلوب إعلامي يبدأ كل منشور بعنوان الخبر وأهم التصريحات التي جاء بها سيادة المطران، وقبل نص كُل خبر يُلاحظ الإشارة إلى مكان الحدث.

ولتعميق التواصل، تميزت المنشورات بالصور المرفقة لكل حدث، متمثلةً في شخص المطران في أغلب الأحيان، حيث تطغى السمة المسيحيّة الوطنيّة على الصفحة بوجود الصليب، الكنيسة، وأعلام فلسطين.

وتجمع المنشورات على أجندة وطنيّة ترفض تجنيد الشاب المسيحي، مؤكدةً الحفاظ على الهُوية العربيّة الفلسطينيّة، وبذلك استطاعت الصفحة أن تُخاطب المسلمين والمسيحيين على حدٍ سواء كما تُظهر التعليقات.

وترى طالبة اللغة اللعربيّة والإعلام، ضحى حويطي، أنَ هناك تفاعلاً نوعيّ على هذهِ صفحات، نسبةً لأن معظم الشباب لايقرأون كثيرًا عن أمور دينهم فيلجأون الى أسهل الطرق من خلال متابعة ما ينشره رجال الدين، فالشاب دائما يبحث عن الطرق الأسهل في الحصول على المعرفة الدينيّة، إضافةً إلى أنّه عصر السرعة وكسب المعلومات بطريقة إلكترونيّة.

ويُرجح أستاذ الإعلام، سعيد أبو معلّا، هذا الإقبال بسبب خجل الجيل الشاب من الذهاب إلى رجال الدين والتواصل معهم بأمور شخصيّة في الحياة الواقعيّة، أمّا عبر "الفيسبوك" فالأمر متاح بجرأة أكبر كون يوجد حد ما أعلى من العلاقة.

أمّا بعد

تتنوع الصفحات الدينيّة بمنشوراتها، منها للدعاء والصلاة، نشر الدعوة، ترويج سياسات، أو أهداف إعلاميّة، ويختلف الأستاذ أبو معلّا على أن يكون دافع رجال الدين وراء استخدام "الفيسبوك" من أجل الدعوة الدينيّة، موضحاً أنّ العلاقة ضعفتْ بين رجال الدين والنّاس، مما اضطرهم لاستخدام طرق جديدة للتواصل مع العالم المحيط والتواجد حيث يتواجد العامة.

ويعدد أبو معلّا الأسباب، ومنها أن تكون هذه الصفحات الدينيّة موضة لمجاراة العصر، أو بوق للنجوميّة.

يشرح أبو معلّا أنَّ تأثير استخدام علماء الدين لمواقع التواصل الإجتماعي، سيجعلهم أكثر ليبرالية وانفتاحاً، على المدى البعيد، فخاصيّة الفيسبوك أنّها تعتمد على رجع الصدى الناقد والرأي الآخر، بعكسِ ما أجاب أحد علماء الدين على طلب مقابلتهِ عبر "الفيسبوك"، أنّه مشغول بِـ "الرد على الملاحدة والجهال".

تتعدد الصفحات والشخصيات كلّ يوم، في عالمٍ مفتوح كمواقع التواصل الإجتماعي، لا شروط له، وبتنوع الأفراد تختلف الأهداف والأساليب، فمنها ما هو نزيه وصادق، ومنها ما عابث في السياسة ومحرّض للنزاع والعدوان، ولا شكّ أنّ الأقبال عليها يزداد، خاصةً في مجتمعنا المتدين بكافة أطيافهِ، فهل يا ترى ستخلق مواقع التواصل الإجتماعي خطاباً دينياً جديداً يعتمد على القيمة التفاعليّة؟.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]