من المؤكد أن حماس لو بقيت خارج السلطة لما حصلت على هذا الكم الكبير من سيل الاتهامات والتجريح، ولجنبت نفسها كثير من دوائر الظن، وجهد الرد الدائم على هذه التهم التي لها فعل الرصاصة، فان التنافس في السياسة لا ينتمي للمدرسة المثالية في العلاقات الدولية، وخاصة عند العرب الذين لم يمارسوا ديمقراطية حقيقية، ولم يعتادوا مبدأ التداول السلمي للسلطة، وتقبل الآخر، لذا، كان أي تصريح يخرج من أي سياسي أو مسئول حمساوي – حتى وان كان لمجرد التهديد - يصبح مادة إعلامية دسمة لبعض وسائل الإعلام المحسوبة على الخصم السياسي الآخر.
فالتنافس على السلطة – للأسف – عندنا لا يحترم فيه المتخاصمين شرف الخصومة، ويصبح الكذب الإعلامي مبرراً، متحصناً خلف سيل من الفتاوى التي تبيح وتجيز ذلك. فها هو الرئيس اليمني السابق، علي عبد الله صالح أفنى معظم فتراته الرئاسية وقدرات الجيش والدولة يقاتل الحوثيين بضراوة، وعندما وجد نفسه خارج السلطة بفعل ثورة الربيع العربي المتعثرة في اليمن، التحم واصطف مع الحوثيين ليقاتل شعبه وجيشه السابق، من أجل استعادة السلطة! مفارقة سياسية بامتياز!
ولا يخطئ الظن لمن يعيش في غزة بأن حماس فعلاً ما زالت تسيطر على الأمن في غزة. ولها السيطرة الأمنية والشرطية على كامل غزة. وسيظل الحال هكذا طالما ظل وزراء حكومة الوفاق يحلون على غزة كضيوف أعزاء، يوعدون أهل غزة بالرخاء، ودمج الموظفين وتسريع عمليات الاعمار، لتتبدد هذه الوعود فور وصولهم أراضي الضفة الغربية آمنين، وندخل في مرحلة "التصريحات" و "التصريحات المنفية"، و " التصريحات" و "التصريحات المضادة".
و تصدر خبر "إعلان دولة في غزة" كثير من الصحف، لينبري للتأكيد على هذا الخبر فيما بعد كثير من الأقلام – للأسف أغلبهم سقط متاع- من الناطقين الإعلاميين الذين دأبوا على إشاعة أجواء الإثارة والتحريض الإعلامي.
إن فكرة إقامة دولة في منطقة فلسطينية محددة، و فكرة "تبادل الأراضي" تسربت من الإعلام الإسرائيلي والإعلام الغربي ذي الصلة القوية بــ "إسرائيل"، وروج لها بقوة حتى تبنتها بعض الصحف الفلسطينية التي لها خصومة مع بعض الأحزاب في غزة، وتبعتها الصحف العربية فيما بعد. فقد طرحها البروفيسور " يهوشع بن آريه" الرئيس السابق للجامعة العبرية، وسميت بخطة جيورا آيلاند، ولكن هذه الخطط لم تجد طريقها للتطبيق أو حتى الدراسة فلسطينياً، ووجدت طريقها كنوع من التراشق الإعلامي وجزء من التحريض فقط. وتاريخياً، فقد رفض الشعب الفلسطيني فكرة تبادل أراضي مع سيناء المصرية أثناء فترة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. و يجمع الكل حول فكرة " لا دولة في غزة، ولا دولة بدون غزة".
كثير من الحجج القوية والدلائل تنسف ادعاءات ومزاعم "إقامة دولة في غزة" منها؛
أولاً: خيارات حماس الإستراتيجية محصورة جداً، فهي في مأزق، وتركها للحكم كان طوق نجاة في وقت حرج تميز بتغيرات إقليمية لم تكن في صالحها. فهي حملت عبئا أرهق كاهلها بتوليها "حكومة"، فهل تعيد ذلك العبء مضافا إليه ما سيترتب عليه مفهوم الدولة؟ بالعكس، فوجود السلطة وتوليها لدفة القيادة يعفيها من مطلب الاعتراف بإسرائيل ونبذ العنف وخضوع القسام لرقابة أجنبية ( مطالب الرباعية).
ثانياً: إن فكرة إعلان دولة في إحدى المدن الفلسطينية سواءً في غزة أو أي منطقة أخرى لا تلقى أي قبول شعبي فلسطيني، بل إنها فكرة يرفضها بشدة المجتمع ونخبه قواعده الشعبية جميعاً.
ثالثاً: إن فكرة إقامة دولة في غزة، Micro- state أو Mini- state تستوجب تلبية الشروط والمعايير الدولية، ورضا المجتمع الدولي وتلبية شروط الرباعية، وهذا ما ترفضه حركات المقاومة في غزة، هذه الحركات التي أقامت شرعيتها على استمرار المقاومة و على عدم الاعتراف بإسرائيل ونبذ العنف، هذا العنف الذي يقصده دوما الغرب هو المقاومة الفلسطينية.
رابعاً: لو كانت حماس تريد إقامة دولة في غزة لكان أعلنتها إبان حكمها القوي وفترة الانفراجة الكبرى مع بداية صعود الإسلاميين في مصر ودول أخرى.
خامساً: إن تلويح البعض بإقامة "إدارة تدير شؤون غزة" على قاعدة وموضة " أخبرتني عصفورتي" جاءت كتلويح وترهيب فقط، وذلك لتمثل ضغطاً على السلطة لكي تشرع بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه وإجبارها للقيام بمهامها تجاه غزة.
سادساً: إن مراكز الأبحاث والدراسات التابعة لحماس ورجالات الفكر والرأي والتجديد في الحركة، يأتي في مقدمتهم د. أحمد يوسف و د. غازي حمد ممن يحملون فكراً مستنيراً ومتجدداً يتواكب مع وتيرة المتغيرات السريعة ويتبنون مقترب تصالحي دوماً مع الآخرين يؤكدون على ضرورة المضي في وحدة حقيقية، وفي ضرورة أن لا تتورط حماس في تشكيل لجنة لإدارة غزة أو إعلان دولة، لما لها من تداعيات واحتمالية تأبيد الانقسام بين الفلسطينيين.
سابعاً: إسرائيل لم تسمح لحركة (فتح – السلطة) أن تقيم دولة على حدود 1967، فهل ستسمح لحماس؟؟
المطلوب وبسرعة، دمج موظفي حكومة غزة السابقة، والتسريع بالاعمار وإيجاد فرص عمل للخريجين وإعادة الكهرباء وتحسين حركة السفر وتنقل الأفراد من والى غزة.
إن تحقيق الشروط السابقة يوفر علينا كثيرا من الوقت والجهد والمال، ويمنعنا من الانجرار وراء مزاعم إسرائيلية، وتوفر علينا جهد إعلامي كبير، من سيل التصريحات والتصريحات المنفية, أو التصريحات والتصريحات المضادة.
إن استمرار معاناة غزة وإطالة أمد الانقسام – بسبب خلاف السلطة مع حماس- هو الخطيئة التي لا تغتفر، لان الشعب الفلسطيني في غزة ضحية هذا الانقسام وضحية العقاب الجماعي، Collective Punishment" " الذي يتعرض له الشعب. (فان عدد الذين ماتوا حرقاً بسبب إشعال شمعة في ظل انقطاع الكهرباء الدائم قد يفوق عدد من يسقط في بعض الحروب).
وأخيراً؛ رسالتي للإعلاميين؛ فلتتوقف وسائل إعلامكم (فتح وحماس) عن التحريض، وسرعة الاتهام، فلتكونوا جزءا من الحل وليس جزءا من الأزمة. اتركوا الساسة قليلاً، فالتركيبة النفسية لقياداتنا تنتمي –للأسف- لعقلية "رب الأسرة" الذي يحب أن تكون بيده سلطات المنح أو المنع.
يتأثر بما يقال عنه ويتصرف وكأن البلد ملك له، وذلك عكس الدول الديمقراطية التي يحكمها مؤسسات حقيقية تمثل المجتمع، ولا تخضع لأمزجة وأهواء المسئولين.
[email protected]
أضف تعليق