في العاشر من نيسان قبل 84 عاما، في العام 1931 أسلم الفيلسوف العربي اللبناني الروح، في عقر دار أم العالم الغربي الحديث الولايات المتحدة الأمريكية، بعدما عقر عجرفتها وسطوتها بأدبه وفلسفته الشرقية، وتحول انجيله الشرقي "النبي" المصطفى الى انجيل يتلى في كنائسها. تفوق جبران على الغرب بلغته، بأفكاره، بأدبه وليس بسيفه أو سلبيته أو عدائيته. رحل جبران في بلاد الغرب الذي سعى اليه طلبا للحرية، لكنه عاد جسدا ليزرع ثانية في بلاده كي ينمو ثانية كحبة الحنطة.
توفي جبران قبل 84 عاما في نيو يورك، غريبا، مهاجرا، بعيدا عن وطنه، ليس قبل أن يصرخ متألما "مات أهلي"، والتي عادت فيروز لتنشدها بصوتها الملائكي بعد عشرات السنين، ومعبرا عما شعر به لأخبار توالدت اليه مع نهاية الحرب العالمية الأولى، عن وفاة أهل بلاده في الشام نتيجة الجوع والمرض. واليوم نعود لننشد تلك المقطوعة النثرية شعرا بعد عشرات السنين أيضا، ونحن نشهد موت الأهل في مخيم لجوء آخر وهو مخيم اليرموك في الشام المجروحة، فأهل اليرموك يموتون اليوم جوعا وعطشا وبطشا، كما مات أهل تل الزعتر وصبرا وشاتيلا في لبنان المنقسم دائما على نفسه، بطشا وكراهية ولؤما، وكما مات أهل سوريا ولبنان في عهد جبران جوعا وعطشا واهمالا وجورا.
قبل قرن من الزمان حل القحط والمحل في بلاد الشام فمات الكثيرون من أهلها، وجبران يعيش في بلاد الرغد والعيش الهنيء بعيدا عن أهله المنكوبين مما زاد في ألمه وضاعف من مأساته، فصرخ عام 1916 قائلا "مات أهلي جائعين، ومن لم يمت منهم جوعا قضى بحد السيف".
وماذا عسانا نقول أكثر من ذلك، في من يموت من أهلنا في اليرموك اليوم؟ واذا كان ما ما يضاعف من مأساة جبران أن أهله ماتوا "أذل ميتة، وأنا ههنا أعيش في رغد وسلام. وهذه هي المأساة المستتبة على مسرح نفسي". فان ما يضاعف من مأساتنا ليس أننا "نعيش في رغد وسلام هنا"، بل أننا نواصل التجاذب في خلافاتنا الداخلية الجوفاء، ما بين اتهام للنظام وبين الدفاع عنه وكل يتمترس خلف موقفه الواهن، بينما أهلنا يواصلون موتهم ان لم يكن بالجوع فبحد سيف "أبناء الأفاعي، قد تنفسوا السموم في الفضاء، الذي كانت تملأه أنفاس الارز وعطور الورود والياسمين"، ونغض الطرف عنهم بكل صفاقة وعجرفة.
ومما يؤلمنا أكثر اليوم، هو ما آلم جبران قبل قرن من الزمان، أن أهلنا " لم يموتوا متمردين ولا هلكوا محاربين، ولا زعزع الزلزال بلادهم فانقرضوا مستسلمين. مات أهلي على الصليب".
يموت أهل اليرموك اليوم مع المسيح على الصليب، "ماتوا صامتين لأن آذان البشرية قد أغلقت دون صراخهم"، وهم يزفرون مع السيد "الهي، الهي، لماذا تركتني؟". ماتوا وهم ينتظرون أن تتفق فصائلهم التي طالما تفاخرت ببطولاتها الوهمية، واليوم تنتظر اتفاقا وهميا، فاحتفظوا يا أهلنا في اليرموك ببعض دمائكم ريثما تتفق الفصائل على حمايتكم.
مات أهلنا " فماذا نستطيع أن نفعل لمن لم يمت منهم ؟"
هل نبقى نتلهى بانقساماتنا السطحية ومواقفنا الباهتة ونقاشاتنا الصبيانية؟ هل نواصل عقد اجتماعات فصائلنا التي باتت تشبه اجتماعات القمة العربية، وتحتاج الى اجماع لن يتحقق وخطط لا تنفذ، وتحرير صوتي لن تكون يوما له أقدام على الأرض؟
" هل نبقى مرتابين، مترددين، متكاسلين، مشغولين عن المأساة العظيمة بتوافه الحياة وصغائرها؟"
هل نبقى نحلم بعز نعيش فيه ولسنا أصحابه، وهل نستمر نتغنى بطمأنينة ننعم بها ولسنا من صناعها، وهل نواصل العيش كالبهائم نأكل ونشرب في هامش حظيرة، ونحن نخدع أنفسنا بواحة ليسنا من بناتها ولم نرثها عن آبائنا؟
معذرة أهلي.. لو أني كنت منكم لما سمحت للأفاعي، بالتسلل الى غرف نوم كمال ناصر وكمال عدوان ويوسف النجار، في وطن جبران وفي يوم وفاته من عام 1973، أو الى سيارة غسان كنفاني في صيف لبناني حار.
لو أني كنت منكم لما سمحت لقطعان التخلف والجهل والبطش المتوحشين، أن يقتلوا أهلي المسالمين الحالمين بالعودة سذاجة الى أرض الوطن، فطاردهم الشياطين الملاعين الى أرض مؤقتة، واغتالوا أحلامهم ووأدوا أفكارهم الخجولة التي حملوها في أفئدتهم من مخيم الى مخيم، وكأنهم يحملون مفتاح العودة الذي كسره بربر الشر والعولمة الفوضوية.
معذرة أهلي.. أنتم تموتون وتدفعون ضريبة الدم، ونحن نعيش وندفع ضريبة الكلام.
( شفاعمرو/ الجليل)
[email protected]
أضف تعليق