فيه آخر أنفاسنا، وفيه آخر ما بقي من دماء في عروقنا، وفيه آخر حكايات البقاء على التلة الواقفة فوق صدر البلاد، وفيه الموجة الأخيرة قبل غرق البحر وذهاب السفن إلى صحراء القحط.
يا أيها «اليرموك» الذي لم يقم من وجع، ظل النزف غديراًً حتى صار وجيب القلب صاعقاً يهز الأودية الخاوية من الكرامة والمروءة. يا ايها الساكت على عجزنا وقلة حيلتنا، نرميك بعيداً في ركن قصي من اللحظة، لأن نظرات قتلاك وبيوتك الهائمة في الظلال تجرح نزوعنا الأملس نحو الكبرياء.
خجلنا يخجل منا، ودموع العين تُكّذب حزننا المسرحي، غضبنا لا يحاكي ردة فعل الروح الحقيقية. نخبئ داخلنا مشاعرنا والحسرة التي نحس، والغصة التي تتملكنا، وتساقط فروة الروح، وخمول القلب المترع باللوعة عليك.
صار هولاكو متعدد الأوجه، وصار سيفه طائرة وقذيفة وصاروخاً، وصار سكينه يجز أعناقنا الطرية، فما عادت صرخاتنا تخيف حفيف الأشجار، ولا تتواري من وقعها الطيور الرابضة في أعشاب التلال. صار هولاكو متلازمة تحيا معنا، فما استرحنا ولا تنفسنا الصعداء، ولا جف العرق على أجسادنا اللاهثة في صحراء التيه منذ نعق البوم فوق علّيات البيوت، ودوى الصراخ في قلب البحر الهادئ فانفجر بنا سفناً تحملنا إلى المنافي التي لا نرغب وإلى الضياع التي لم نشته يوماً وإلى الأرض التي لا تشبهنا.
من يحتمل هذا الألم! ومن يقدر على لملمة الأحلام التي جرفها نهر الدم مثل ثعبان يفتح فمه فيلتهم بيوتك بيتاً بيتاً، ويُغرق شوارعك بالهلع.
لم نعد نحتمل هذا!
لم يعد القلب الملفوف بالحزن، والعين المجبولة بالدمع، وأصابع اليد السابحة في بحر الأسى، لم يعد شيء منا قادراً على أن يواصل طريق الألم تلك. ولم يعد الهواء المنقى من روحنا يمدنا بالأكسجين، ولم تعد الغيمات المسافرة في الروح قادرة على حمل الحلم بعيداً حتى لا يندثر تحت بساطير القتلة باسم الرب الذي يصرون على اختطافه، وعلى ذبحك باسمه. لم يعد مسيحنا قادراً على حمل صليبه حتى هاوية القيامة.
نشاهدك من خلف شاشات التلفاز، مثلما نشاهد فيلماً قاسياً، نذرف الدموع ونلملم عجزنا لعل ذرة قوة تأتي منه، نمسك بتلابيب الأسى لعلنا نخيط عباءة تشعرنا بالقليل من المروءة .
إنهم يسرقونك منا، يسرقون من تحت أقدامنا عتبات محطة الوصول حتى لا نسير في الطريق التي نعرف إلى البلاد التي نشتهي. يسرقون خارطة العودة إلى البيت، يسرقون ما تبقى من مفاتيح معلقة على جدران البيوت، ويدوسون خريطة البلاد الواقفة مثل سيف يُغمد في كبد السماء.
أعطنا القليل من صمودك لأننا نقف على هاوية ستأخذنا إلى قاع لا نُبصر منه، ونغرق في دوامة لا تبقي منا لسمك القرش عظمةًً ليبحث عن لحمنا فيها. أعطنا بعضاً منك لأننا بحاجة إلينا، وامنحنا القليل من بقاياك لعلها تفيدنا في اكتشاف كلنا المفقود. رد إلينا اسماءنا التي نسيناها في تيه البحث عن سلطة أو عرش أو سياج نحرسه، ثم اقتتلنا من منا يفعل هذا. رُدَّ إلينا تلك الأسماء الشهية عن الضياع المشتهاة التي سكنتنا ونرحل إليها كل يوم دون أن نصلها. رُدَّ إلينا فلسطينيتنا التي تجزأت بين جناحي وطن مفقود- ولم نتذكر أن الطائر ميت، فكيف يكون له جناحان، ثم تجزأت بين مناطق ومدن وأقانيم وأحزاب وعائلات وشمال وجنوب ولاجئ ومقيم، وغزة والضفة والشتات والداخل، وابتدعنا للغة إحالاتٍ تخجل هي منا من أجل أن نمزق جسدنا المعطوب.
يا أيها اليرموك المصلوب، قم عن صليبك وامش بنا إلى آخر درب الوصول حيث وقع الخطوات وحفر الأرجل على وجه الطريق وغبار المسير على الحواف، وحمحمة الخيل المغادر، كلها لم تزل تنتظر عودتنا، فلا تمت قبل أن نعود، فلا تذهب بأحلامنا بعيداً عن الطريق.
[email protected]
أضف تعليق