خطاب النكوص الذي جاء به الزعيم الجديد للجبهة أيمن عودة والذي أكتملت أضلعه إثر الوقوف المهين على نشيد "هتكفا"، بعد الحج الى بيت رئيس دولة اسرائيل رؤوفين ريفلين والسكوت على تطاولات ليبرمان خلال المناظرة التلفزيونية. هذا الخطاب قد يعيدنا الى نقطة البداية في الصراع مع الحزب والجبهة حول الهوية والذي امتد لسنوات طويلة، ابتدأ في مطلع الستينيات مع حركة الأرض وتواصل منذ مطلع السبعينيات مع بوادر انطلاقة حركة أبناء البلد واحتدم خلال نهاية السبعينيات وأواسط الثمانينيات وتواصل مع تأسيس الحركة التقدمية والحركة الاسلامية لاحقا. وقد شكلت حركة ابناء البلد رأس الحربة في هذا الصراع الذي تمحور حول هوية جماهير الداخل وموقعها من الحركة الوطنية الفلسطينية من جهة وعلاقتها بدولة اسرائيل بصيغتها اليهودية وما تحمله من تداعيات ودلالات ورموز من جهة ثانية.

وليس خافيا على أحد أن الرموز الفلسطينية وعلى رأسها العلم الوطني قد احتلت مساحة أساسية في هذا الصراع حيث تحولت مسيرات يوم الأرض الى ساحة "قتال" على العلم الفلسطيني الذي أصرت ابناء البلد على رفعه، تأكيدا لما يرمز اليه من انتماء يترجم تاريخا وحاضرا ومستقبلا على هذه الأرض. بالمقابل كانت الرموز الاسرائيلية من علم ونشيد حاضرة في هذا الصراع المرتبط بهوية وانتماء هذا الجزء من الشاعب الفلسطيني المتبقي في وطنه بعد النكبة، فلطالما انتقدت ابناء البلد قيام الحزب الشيوعي بمظاهرات اول ايار وافتتاح مؤتمراته بنشيد هتكفا.

الصراع المذكور الذي احتدم بين النخب السياسية وفي الجامعات أساسا، ضرب عميقا داخل الحزب الشيوعي وأدى لاحقا الى انشقاق هو الثاني داخل هذا الحزب بعد انشقاق 1965 الذي وقع على خلفية مشابهة. هذا الانشقاق الذي لم يأخذ حقه من ناحية "التأريخ" شكل منعطفا هاما، وبدأ بانسحاب المناضل صليبا خميس من الحزب والجبهة وتتالى بانشقاق المجموعة الطلابية سابقا بقيادة الدكتور عزمي بشارة ( طلاب السبعينيات والثمانينايت الذين خاضوا "الحرب" الخارجية أمام ابناء البلد على الرموز والهوية الوطنية وخاضوا الصراع الداخلي مع المؤسسة الحزبية التي هيمن عليها النهج الاسرائيلي).

المجموعة المنشقة التي انتظمت في اطار حركة ميثاق المساواة لاقت تداعيات انشقاقها أصداء داخل الحزب الذي أطاحت " رياح البريسترويكا" بقيادته التاريخية ومكنت ما تبقى من المجموعة الطلابية وفي مقدمتها محمد بركة من الوصول الى قمرة القيادة، وسهل لاحقا انتاج خطاب سياسي شبه موحد وضع حدا لسنوات الصراع الطويل وحسم مسألة الهوية والانتماء وما يرتبط بها من رموز وفي مقدمتها العلم الفلسطيني الذي أصبح بعد أوسلو يرفع في مسيرات الحزب والجبهة أيضا، مثلما حسمت الموقف من الرموز الاسرائيلية بوصفها، بأقل تقدير، رموزا دينية عنصرية مرتبطة بيهودية الدولة ولا تمثلنا لا سياسيا ولا ثقافيا ولا وطنيا.

لقد مكن تأسيس- التجمع الذي ضم ابناء البلد وبقايا التقدمية وحركة ميثاق المساواة ومن ثم تحالف الجبهة والتجمع- مكن من انتاج خطاب شبه موحد يقف في مركزه تأكيد هويتنا وانتمائنا كجزء أصيل من الشعب الفلسطيني من جهة ومسألة يهودية الدولة كدولة يهودية عنصرية تمارس سياسة التهميش والاقصاء ضدنا وتسعى لتهويد الحيز العام داخل الخط الأخضر وفي الضفة والقطاع.

هذا الخطاب الموحد الذي أمسك بحلقة يهودية الدولة كحلقة مركزية سهل لاحقا عمل الهيئات الوطنية الموحدة مثل، لجنة المتابعة ولجنة الرؤساء وحشر وأحرج المؤسسة الاسرائيلية محليا وعالميا، حيث بدأت توصف من قبل العديد من الحركات الدولية كدولة ابرتهايد. وليس غريبا أن يثير تصريح نتنياهو حول زحف العرب لصناديق الاقتراع ردود فعل دولية وأن يستدعي رد فعل الرئيس الأمريكي شخصيا.

هذا الخطاب عزز من وحدتنا الوطنية حول قضايانا القومية واليومية بعد أن قلص مساحة الخلاف بين اطراف العمل الوطني الذي شكل سدا أمام محاولات الأسرلة والاندماج على هامش الدولة والمجتمع الاسرائيلي، أزعج اسرائيل وأحرجها أمام الهيئات الدولية بعد أن كشف طابعها العنصري وديمقراطيتها الاثنية، خاصة وانه استند الى عمقنا العربي عبر التواصل ومد الجسور مع محيطنا القومي.

عودة على بدء، فإن خطاب أيمن عودة الجديد/ القديم والذي يلقى معارضة حتى داخل اوساط من الحزب والجبهة لأنه يسعى الى العودة بالحزب الى عهد ميكونيس وبجماهيرنا الى ما قبل يوم الأرض الذي كسر عكاكيز السلطة وانتفض على سياسة الخنوع والاستجداء، وعلمنا كيف ننتزع حقوقنا انتزاعا من بين أنياب مغتصبيها (وبالمناسبة هذه التعابير هي بلاغة خطابية جبهوية نعيد تكرارها أولا لأنها صحيحة وثانيا كي نذكر اصحابه بها عسى أن تنفع الذكرى).

خطاب الاستكانة هذا قد يحول صاحبه من مارتن لوثر كينغ الى فيكي كنافو ومن مهذب الى منافق، والتشبيهات لمعلقين اسرائيليين ، والأخطر أن هذا الخطاب الذي يراد له الهيمنة والتحول الى خطاب الجماهير، هو وصفة جاهزة لتفجير الوحدة و القائمة المشتركة واعادة ساحة الداخل الى صراع السبعينيات والثمانينيات.

لقد تساءل البعض كيف يستوي الوقوف على النشيد الوطني الفلسطيني في يوم الأرض ،والوقوف على "هتكفا" في الكنيست وهو تناقض سيتخذ بعدا أكثر وضوحا في ذكرى النكبة القريبة.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]