كان الدكتور صادق جلال العظم حُيّد كالبعير الأجرب ومن ثمّ "انتُفِي" حين كتب كتابه: "النقد الذاتي بعد الهزيمة" غداة حرب حزيران 1967، لأنه غنى خارج السرب. كنّا حينها فتيانا ولكن أولئك منّا الذين حملوا الهم الوطنيّ باكرا عايشنا تداعيات الحرب في سنوات بلوغنا التي تلت، و"بُلّعنا" خلالها أنه رغم الهزيمة النكراء التي مني بها العرب إلا أنها تُعتبر انتصارا بعد أن حسم كبارنا ومن الذين لم يخوضوا الحرب أصلا، أن هدفها كان: "القضاء على أنظمة التحرر التقدميّة في العالم العربيّ" وفشلت، ولذلك فالهزيمة لم تكن كذلك وإنما نكسة، ومن قيّض له أن يقرا كتاب العظم حينها، ما زال يترحم عليه حيّا وميتا.


لكن ورغم مرور 48 عاما على "انتصارنا" ذاك وما نعانيه من ثمراته في كلّ بقعة من بقاعنا، ما زلنا نحرز النصر تلو الآخر وعلى نفس مبدأ انتصارنا في ال-67 في كلّ معركة نخوضها. نخوض المعركة تلو الأخرى أو تُخاض ضدنا المعارك الواحدة تلو الأخرى، وطبقا للنتائج وارتجاعيّا نضع أو نتهيّأ أهدافا كانت كامنة وراء المعارك وفشلت ونحتفي بالانتصار، وكلّ من يشكك في انتصاراتنا ندبّ في ظهره، وحدّث ولا حرج، كل موبقات الدنيا و-"أوجَهُها" أنه عميل لأعداء الوطن والأمة تماما كما كان نصيب العظم!

لم تنطلق المجتمعات البشريّة التي انطلقت، من خلال التغني بإنجازاتها وإنما بالأساس من خلال رؤية نقاط الضعف في الانجازات ورؤية إخفاقاتها وتذويتها وجدانيّا وذهنيّا، فالأمة التي لا تنظر إلى إنجازاتها بنصف عين وتنظر بالعين والنصف المتبقيّة إلى إخفاقاتها ستظل تحتفل بانتصاراتها التي على شكل انتصاراتنا ال-"حُزيرانيّة" ال- "سبعْوَستينيّة".

لم أسق هذه المقدّمة لأدعي أن المشتركة انهزمت كما هزيمة ال-67، ولكن وما دمنا في الحروب والمعارك فانتصارها هو كالانتصار في حرب ال-1973، والمهم ألا نرى عبور قناة السويس (نسبة الحسم) وتحرر القنيطرة ( إضافة عضو فعليّا) وكفى المؤمنين شرّ القتال، المهم أن نرى الإخفاقات لنتلافاها مستقبلا، إذ أن الأهداف التي وضعتها المشتركة بغالبيتها لم تتحقق.

في مقالة كتبتها قبل الانتخابات تحت عنوان "قوة العرب 18 مقعدا... ولكن"، وعُدت عليها في مقابلة إذاعيّة، قلت أن تحقيق الأهداف التي وضعتها المشتركة منوط بثلاثة: مساواة نسبة التصويت مع اليهود، الحد من اختراقات الأحزاب الصهيونيّة والعمل في مواقع الضعف كالعرب الدروز وغيرهم، وإن لم تنجح فال-13 على الحفّة، وها هي لم تنجح وال-13 كان على الحفّة.

أولا - التساوي في نسبة التصويت مع اليهود وإسقاط نتانياهو:

النائب محمد بركة أحد قياديي المشتركة الميدانيين صرّح أن التناقض الأساس هو بيننا جميعا وبين السلطة اليمينيّة في الدولة وليس بيننا كأحزاب، ومن هذا المنطلق وضعت المشتركة نصب أعينها هدفا أساسيّا هو سدّ الطريق أمام اليمين لتسنم السلطة فأخفقت، إذ أن تحقيق هذا الهدف أوجب رفع نسبة التصويت وعلى الأقل لتتساوى مع النسبة عند اليهود، ورئيس القائمة أيمن عودة راح أبعد من ذلك ليعلن أن الهدف الوصول إلى نسبة %75 و- 15 مقعدا.

الحقيقة هي أن نسبة التصويت بالكاد تخطّت ال-%50، وحيث أن البيّنة على من ادّعى: فأن عدد أصحاب حق الاقتراع في الدولة هو 5.881 مليون مصوت (انظر الموقع الالكتروني للجنة الانتخابات المركزيّة)، ما غُيّب عن البال عن سبق إصرار وترصّد أن منهم حوالي 580 ألف خارج البلاد، (معطى لم تكن وسائل الإعلام العبريّة لتبرزه لأن معنى ذلك أنهم ومع أولادهم لا يقلون عن ال- 1.5 مليون مواطن يهودي إسرائيلي تاركين أرض "السمن والعسل" وهذا يصيب الصهيونيّة في الصميم)، ولذا فعدد المصوتين المقيمين في البلاد هو 5.3 مليون منهم %15 عربا (أنظر الإعلان الصحفي الصادر عن دائرة الإحصاء المركزيّة عشيّة الانتخابات وعلى خلفيتها من يوم 2015\02\12، نُشر الإعلان كذلك في صحيفة الاتحاد وغيرها).

إذا العرب من مجمل أصحاب حق الاقتراع (%15) أي 882 ألف ناخب ومن المقيمين في إسرائيل (%15) أي 795 ألف ناخب هذا إذا اعتبرنا أن %15 من المقيمين خارج البلاد عربا ونعرف أن الأمر ليس كذلك، وبغض النظر فقد صوّت للمشتركة قرابة ال-444 ألف مصوت وحسب تصريح أيمن عودة منهم 15 ألفا من اليهود، ورغم تصريح عودة فلنحسب 10 آلاف من اليهود فيبقى: 434 ألفا عربا، من 882 ألف فيساوي %49، وإن أردت أن تحسبهم من 795 ألف فيساوي %54.6.

وللبيان، فقد بلغت نسبة التصويت في المغار %47 وفي بير المكسور وكسيفة %49 وفي الكعبية وطوبا %46 وفي تل السبع%47 وفي إبطن %49 وفي أبو قرينات %28 (759 من 2685) وفي أبو ربيعة %20 (716 من 3502) وفي عيلوط %43 وهذه عيّنة.

إذا كان هنالك من يشكك في المعطيات أعلاه فالتلخيص كفيل بأن يقنعه: فقد صوّت للمشتركة كما قلنا 444 ألف صوت، وصوّت في إسرائيل 4.211 مليون صوت أي أن نسبة المشتركة هي %10.5 في حين أن قوتنا %15، يعني ال%4.5 المتبقية تساوي 5 أعضاء فميرتس ب-%3.89 حصلت على 5 أعضاء، فأين ذهب ال-5 هؤلاء؟!.

فأين نحن من تحقيق هدف التساوي مع اليهود والذي كان من الممكن أن يؤدي إلى إسقاط اليمين؟!

ثانيا- الحد من اختراقات الأحزاب الصهيونيّة:

من النظر إلى المعطيات في موقع لجنة الانتخابات المركزيّة يظهر أن المعسكر الصهيوني وميرتس وشاس ولبيد وحتى كحلون حصدوا إضافة إلى غيرهم هنا وهناك قرابة المقعدين. وللمثال: في الناصرة المعسكر الصهيوني 869 صوتا وميرتس 677 صوتا ولبيد 343 صوتا وحتى ليبرمان 126 صوتا، وفي معليا ميرتس 228 صوتا، وفي راهط ميرتس 568 صوتا، وفي بير المكسور المعسكر الصهيوني 226 صوتا ولبيد 387 صوتا وشاس 167 صوتا، وفي كفر مندا شاس 610 أصوات، وفي عرب النعيم 231 صوتا من أصل 238 للمعسكر الصهيوني. فأين نحن من الهدف؟!

ثالثا- مواطن الضعف، العرب الدروز والبدو:

رغم وجود ثلاثة مرشحين من النقب في الأماكن حتى ال-15 إلا أن النسب والأعداد أعلاه مؤشر أن المشتركة أخفقت في اختراق موطن الضعف هذا، وأما بين العرب الدروز فالوضع لا يقل سوءا وقد أخفقت المشتركة رغم وجود مرشّح في مكان على حسب كل الاستطلاعات كان "على الحفّة" وبحاجة لكل صوت. ففي ثمان قرى يسكنها فقط الدروز أو غالبية عظمى من الدروز بلغ عدد أصحاب حق الاقتراع فيها 39870 صوتا صوّت منهم 22790 أي %57 نالت المشتركة 1172 صوتا أي %5، وفي يركا بلد المرشّح نالت 2226 صوتا من أصل 6167 مصوت أي %36.

وبالمناسبة هذا تراجع عن انتخابات ال- 2013 وكبير عن انتخابات ال-2006 وال-2009. فهل استطاعت المشتركة أن تخرق موطن الضعف هذا ؟! أوليس هذا إخفاقا ؟! وهنا وللإنصاف وحسب رأيي تتحمّل المسؤوليّة الأساسيّة القوى الوطنيّة العربيّة الدرزيّة ولا حيدة عن أحد مع الفوارق.

رابعا- معركة المقاطعة والامتناع:

ربابنة المشتركة كانوا يعرفون أن هنالك قطاعا ممتعا فكريّا، ولكن كان يجب عليهم أن يعرفوا أن الشراكة ستفرز قطاعا من الممتنعين. التأجيج الذي حدث بين المعسكرين لا شكّ أنه ساهم في ردع الكثيرين من الممتنعين عن الرجوع عن امتناعهم. لا أرى في ذلك إخفاقا للمشتركة وإنما نتاجا طبيعيّا للحالة الجديدة التي انبثقت لم يكن الوقت ليسعف في تلافيه، ولكن كان يمكن تلافي التأجيج الذي قطع خطوطا حمراء كثيرة وليس فقط على مواقع التواصل الاجتماعيّ.

خامسا- تلخيصا:

في المجمل وبناء على هذه المعطيات فالإنجاز الانتخابيّ الذي حققته المشتركة جدّا محدود، وعطفا على الانتخابات السابقة ورغم أن فيها كان للأحزاب متفرقة (11) عضوا ولكن القوة الفعليّة كانت (12) مقعدا (الموحدة خسرت الخامس بأصوات قليلة)، يعني فعليّا أضافت المشتركة في هذه الانتخابات مقعدا واحدا وفقط، ولا يستطيع أحد أن يدّعي أنها "جاءت برأس كليب".

الإنجاز الذي تحقق في هذا السياق هو إن كل الأحزاب تمثلّت وزادت على رصيدها السابق "نصف عضو كنيست" طبقا لاتفاقيات المناوبة، والإنجاز الأهم والذي على ما يبدو كان "جائزة الترضية" هو الجو الحسن الذي فرضته المشاركة وإن لم يحقق اختراقا انتخابيّا فعلى الأقل نتمنى أن يؤتي ثماره على العلاقات بيننا. ولكن إن كل من تخيّل أنه بمجرّد تشكيل القائمة المشتركة وخضوعا عند "الإرادة الشعبيّة" فإن جماهيرنا "ستدحل دحل" إلى الصناديق خاب ظنّه، ولا أعتقد أن أحدا يستطيع أن يسجّل نصرا ويعتبر هذا تحقيقا للأهداف، ولا هذا ما كانت توخته الأحزاب؟!

أعتقد أن الإخفاق الأكبر الذي ارتكبته الأحزاب العربيّة هو أنها لم تخض المعركة بقائمتين مرتبطتين، فكل المعطيات تشير أنها لو فعلت لكانت النتائج "الإلكتوراليّة" أفضل، وهنالك الكثيرون من الذين كانوا ادّعوا ذلك قبل الانتخابات وأنا منهم، ولكن أصواتهم ضاعت تحت "سبائك الخيل" المُغيرة، فلم يكن خوض الانتخابات بقائمتين مرتبطتين لينتقص لا من فرص النجاح ولا من تطييب الأجواء.

وأخيرا...صحيح أن تناقضنا مع المؤسسة هو أساسيّ، ولكن لا تقّل أهميّة عنه التناقضات التي بيننا في الأطروحات، اجتماعيّا، وسياسيّا وطنيّا، وسياسيّا إقليميّا، وفكريّا، والتي كان يجب أن تكون جزءا من المعركة ف-"الديموقراطيّة" وإن كانت إسرائيليّة هي كذلك عمليّة تثقيفيّة، ومن قال أن وضع هذه التناقضات على الميزان وفي الميزان يقلل من أهميّة تناقضنا الأساسيّ مع المؤسسة؟!.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]