وُلِدنا وكَبُرنا تحت رعاية الأم، طيفها يلاحقنا دائمًا، يدفعنا نحو عالم السّعادة، اسمها يتدحرج يوميًا فوق شفاهنا التي تُقبّلها دومًا، لئلاّ يتداعى كيانها الآمن، فإنها تستحق منّا شهادة شُكرٍ وتقدير على تعبها معانا طوال خدمتها لنا. الأم نجم ضخم من التضحيات يشعّ إنسانيّة، كي يضيء كوكب حياتنا بالآمال، رغم أن نحّات الزّمن ما زال ينحت خفيةً بملامح الأم دون أن تشعر.
عيناها توحيان بسهر الليالي، الذي تَسامَر وإياها لأجلنا... يداها نسجتا أطواق محبّة ومودّة وألفة بيننا... كلّلتانا بالتواضع... نهرتانا عن التبجّح والحقد على بعضنا البعض. منحتنا مسحوق التفاؤل الذي أبطَل مفعول الخنوع لزحف القدر والوقوع في غيهب المجهول... امتصّت الأم آخر نقطة من مياه عمرها العذبة، من أجل أن تمحو عن وجوهنا آثار همومها، حتّى نُجمِّل وجه المجتمع بأخلاقنا وتصرفاتنا، لتستنشق منها عطر سمعتنا الندية، ومن تصرفاتنا تستمد تمسكنا بالقيم والتقاليد، لتفتخر بنا أمام الخلق.
ثمَّة أمهات يُلبسهنَّ الخريف أحيانًا حلَّته البالية، جرّاء ما يعانينه على مَرِّ السنين، من عقوق بعض أبنائهن... فبعد أن ربّتهم على محبة واحترام الغير، تراهم قد رافقوا رفاق السوء. تضيق الحياة بمثل هذه الأم، لتنسحب من هذا الصراع، مهزومةً، مقهورةً، من كثرة الهموم التي تراكمت عليها، فمن المفروض أن نخرّ بتقوى أمام الأم وأن نُرفِقَ بها، كي نتبادل وإيّاها بطاقات الاحترام، وألاّ نصرخ عليها، لأنّ صراخنا يَنزلُ عليها كقعقعة الرعد، فينتاب الأم شعورًا أنّ عصر هيبتها قد ولّى.
إن الصّراع الأزلي الدّائر بين الحماة والكنّة، حول "تعدّي" زوجة الابن على منطقة نفوذ الأمومة، بسيطرة الأخيرة على ابنها، أعتبره صراع على صَون الأم لحقوق امتلاكها للابن، لأنها تشعر أن الزوجة قد "خطفت" كنز عمرها من بحر ولهها. الزَّوج أو الابن يجب أن يكون وسيطًا نزيهًا بين ولائه لزوجته والتزامه الأدبي تجاه أمّه، لذلك عندما تكون الزوجة متفهمة لكيفية التعامل مع الحماة، بأخلاقية عالية غير متعالية، فهذا يُخفّف من حدّة الصّراع بين الحماة والكنّة، لأنه مهما بَدَرَ من الأم، إلاّ أنها يجب أن تبقى متربّعة عرش الكرامة.
الأم مع مرور الزّمن وتطوّر الحياة، تقوم اليوم بدورَين، الأول دور الجدّة المعروف، والثّاني تقوم بدور الحاضِنة والرّاعية لأحفاد ابنها أو ابنتها، لأن بعض الأمهات، تتفهّم الظّروف المعيشيّة الصّعبة، إذ نراها تخرج إلى العَمَل يوميًّا، كي تساعد زوجها في إعالة أسرتها، فتُسَلِّم مهمة رعاية أطفالها إلى أمها أو حَماتها، فتقوم هذه الجدّة باستعادة ذكريات صِباها الغابرة، فتتأقلم سريعًا مع هذه المهمّة وهكذا تساند أبنائها وبناتها قدر استطاعتها، فالأحفاد هُم ينابيع أمل الجدّة التي تروي ما تبقّى لها من عُمر.
أُفاجَأ عندما يقوم بعض المنتسبين إلى مواقع التّواصل الاجتماعي بتسويق عيد الأم من خلاله، كأنه احتفال بمهرجان الرّبيع! فإن هذا يُفقد العيد رمزه المعنوي، لكنّي من جهة أخرى أؤيّد دخول الأم إلى عالم الإنترنت، لتتعرّف على محتواه، كي تخرُج قليلاً من الإطار التقليدي، الذي وضعت نفسها فيه، كي تَكسِر الروتين اليومي الممل.
كل عام وأنت بخير أيتها الأم الرؤوم، الحاضرة معنا دائمًا بالسرّاء والضرّاء، يا مذبح الفداء، وإنّي أتساءل: متى نُقَدِّر عيدكِ ونُجِله معنويًا وليس ماديًا؟! متى نُحوِّله من ورقة نقديّة إلى وثيقة اجتماعيّة؟! وثيقة نوقّعها كلنا، تشمل مجمل انجازاتك العظيمة التي بدأت تضؤل أمام عملاق عصرنا، الذي ينطلق بنا نحو أفق الحداثة.
[email protected]
أضف تعليق