لم تعد ممارسات الاحتلال الإسرائيلي في المسجد الأقصى تقتصر على ميدانه وتخومه الصامدة. ولم يعد الاحتلال يطيق الأعين التي تكشف عن انتهاكاته أسفل الأرض المباركة بينما ينفض عنه ركام الحفريات. فقرر أن يخرج الى الفضاء الإعلامي ويحارب الصوت والكلمة التي تفضح هذه المخططات؛ قبل أن يعود لمحاولة استكمالها دون رقيب أو حسيب.

وباتت سلطات الاحتلال مؤخرا تنافس شركات صناعة أفلام هوليوود في تأليف السيناريوهات التي عجزت عن إخراجها كبرى دور السينما. ورغم ذلك فإن شبابيك التذاكر وصالات العرض لديها ما زالت فارغة ولم يقبل عليها أحد، لكثرة التناقضات والاستهزاء بعقول المشاهدين، وعناصر الخيال المكثفة التي لا تمت للواقع بصلة.

فبعد استهداف المؤسسات العاملة على إحياء المسجد الأقصى المبارك ودعم صمود المقدسيين وإغلاق أربع مؤسسات معنية في بضعة شهور؛ صعّد الاحتلال من حملته الشرسة وانتقل الى محاربة الإعلام الحر الذي يقوم على فضح انتهاكاته ومخططاته، لكسب نقاط في معركة الوعي وثني الفلسطينيين عن صمودهم وثباتهم على الحق في حماية مقدساتهم ووجودهم على الأرض المباركة.

إرهاب وليس إجراءً أمنياً

وكان عناصر من قوات الأمن والمخابرات الإسرائيلية قد داهموا صبيحة الاثنين الماضي مكاتب وكالة الأنباء "كيوبرس" في أم الفحم. وقاموا باحتجاز الموظفين في غرفة، قبل أن يعبثوا في محتوياته ويقوموا بتقطيع الأسلاك الكهربائية من أجل التخريب فقط. وبعد حوالي ساعتين من العربدة والاستفزاز، قاموا بمصادرة كافة الحواسيب والملفات في المكتب، واعتقال ستة موظفين وتحويلهم الى مركز الشرطة في وادي عارة، حيث خضعوا هناك للتحقيق المطوّل حتى ساعات الليل المتأخرة قبل الإفراج عنهم جميعا.

وبالتزامن مع مداهمة المكتب وفي نفس اللحظة، قامت قوات الاحتلال في المسجد الأقصى المبارك باقتحام المسجد واعتقال ثلاثة مقدسيين، رجل وامرأتين، ووجهت الى واحدة منهن تهمة "الإساءة الى مشاعر شرطي" حين ادعت الشرطة انها وصفته على صفحتها الشخصية في الفيسبوك بالـ"مجعلك"، وتم إبعادها عن المسجد شهراً كاملاً لهذه "الإساءة". أما الرجل فقد تم تمديد اعتقاله والتحقيق معه في غرفة 4 في مركز القشلة وعرض على المحكمة في اليوم التالي إضافة الى المقدسية هنادي الحلواني، وتم إبعادهما أيضا عن المسجد الأقصى لمدة شهر كامل دون أي اتهام عيني.

أمر مداهمة واستيلاء دون عنوان


رافق طاقم المحامين من مؤسسة "ميزان لحقوق الانسان" الاقتحام منذ بدايته. وضم الطاقم كلا من المحامي عبد الرؤوف مواسي، والمحامي محمد سليمان اغبارية وأحمد دهامشة، حيث قاموا بالتوجه الى مكاتب "كيوبرس" فور إبلاغهم بأمر الاقتحام لمتابعة القضية ومساندة الموظفين قانونياً، كما قاموا بتقديم استشارات قانونية لهم قبل الدخول الى غرف التحقيق ومرافقتهم حتى اطلاق سراحهم.

وفي حديث مع المحامي محمد سليمان اغبارية قال: "إن أمر التفتيش لم يحتوِ على اسم الوكالة أو أية جهة أخرى، وانما اكتفت الشرطة بكتابة عنوان المكتب الاعلامي الذي يتواجد في حي الباطن في مدينة ام الفحم. فيما اكتفى القاضي بهذا لإعطاء موافقته على أمر التفتيش ووضع اليد على الممتلكات، الأمر الذي يعد بحد ذاته خرقاً للقانون".

وأضاف المحامي اغبارية: "إن ما دار في غرف التحقيق لم يتعد كونه شبهات لا أساس لها، وكل مجهود الشرطة صُب للإصطياد في المياه العكرة. وتمثلت هذه الشبهات في ادعاءات فضفاضة كتقديم خدمات لمنظمات غير قانونية ومخالفات ضريبية وتبييض أموال، دون أن تستند لأية أدلة تستحق حتى استدعائهم للتحقيق".

محمد خيري – صحفي عنيد
أول الصحفيين الذين وصلوا منطقة الباطن في أم الفحم حيث تقع مكاتب "كيوبرس" كان الصحفي محمد خيري. فقد أخرج فور وصوله كاميرته وبدأ بتصوير الموقع حتى باغته عناصر الشرطة وحجزوا الكاميرا وحذفوا كافة الصور منها ثم أعادوها له.

الا أن هذا الصحفي العنيد لم يرضخ لتهديداتهم ومحاولات التعتيم على انتهاكاتهم، وبقي مكانه يصور من هاتفه الشخصي لتوثيق عربدتهم. ونجح في توثيق مراحل الاقتحام واعتقال الموظفين، والأضرار التي تسبب بها عناصر الأمن من عبث وتخريب في المكتب.

الاعلام الإسرائيلي أداة تحريض

تتباهى المؤسسة الإسرائيلية بحرية التعبير في نطاق حدودها وعمل وسائل الاعلام غير المجند، وتدعي أنها تعمل وفق معايير مهنية وصحفية فقط، دون أي اعتبار لسياسات أو قيود داخلية.

لكن الظاهر شيء وما يدور خلف الكواليس أمر مختلف تماما. فمع قيام قوات الأمن والمخابرات بمداهمة المكتب الإعلامي لـ"كيوبرس"، نشرت وسائل الاعلام العبرية عن هذا الشأن بإسهاب شديد، فيما جمع بينها الصور التي زينت الأخبار أسفل العناوين التحريضية.
واختار الموقع الإسرائيلي nana10 أن يرفق في الخبر صورة لملثم يحمل في يمناه بندقية وفي يده اليسرى يرفع علم حركة حماس للربط بينه وبين أمر المداهمة. فيما كان موقع 0404 أكثر إبداعاً حين اختار أسفل العنوان صورة أسلحة الى جانب كيس طحين دون أية إشارة الى مصدر الصورة؛ وكأن هذه الأسلحة هي من الممتلكات التي صادرتها الشرطة من المكتب الإعلامي.

وفي حديث مع المحامي عبد الرؤوف مواسي من مؤسسة ميزان قال: "انه من المعلوم ان حرية الصحافة هي الحارس الامين للديمقراطية وهي لبنة مركزية في اساس حرية التعبير وحرية الانسان وكرامته، وهذا ما اقرته المعاهدات والاعراف الدولية المختلفة. النقاش المفتوح في أي مجتمع حر لا يتم بدون حرية الصحافة وهي شرط اساس لتوجيه الانتقادات تجاه افعال الدولة وسلطاتها بكل ما يتعلق بخروقاتها بحريات الانسان والانتقاص من حقوق وحريات الاقليات. وعليه فإن هذا التصرف الذي قامت به شرطة اسرائيل ومخابراتها يعد انتهاكاً صارخاً لحرية الصحافة وهو من صفات الانظمة الظالمة المستبدة التي تقمع حقوق الاقليات وحرياتها".

ويقوم قسم الرصد في "كيوبرس" بتوثيق هذه المواد التحريضية من أجل التوجه الى أجهزة القضاء الدولية وفضح وسائل الاعلام التي تتحكم فيها الأذرع الأمنية والمخابرات في المؤسسة الإسرائيلية.

كيوبرس – من أنتم؟

تأسست شبكة "كيوبرس" الإعلامية في تشرين ثان من العام الماضي حيث وضعت نصب أعينها تغطية أخبار القدس والمسجد الأقصى على مدار الساعة. واستطاعت في فترة قصيرة أن تتصدر المشهد الاعلامي في شؤون القدس والمسجد الأقصى، وأن تفرض نفسها بجدارة بعد أن باتت تفضح انتهاكات الاحتلال اليومية بحق المقدسيين والمصلين في المسجد الأقصى، في ظل محاولات الاحتلال الحثيثة للتعتيم الكامل على ممارساته العنصرية.

"كيوبرس" التي لم يتعد عمرها بضعة شهور استطاعت في وقت قصير أن تحقق إنجازات على أكثر من صعيد. تمثل الأول في قدرتها على الوصول الى أزقة القدس المحتلة والمسجد الأقصى، والتوثيق المتواصل لانتهاكات الاحتلال وممارساته التعسفية بحق المقدسيين والمصلين في المسجد الأقصى. كما أنها باتت تسبب أرقاً للاحتلال الذي يسعى للتعتيم على مخططاته الحاقدة خاصة في المسجد الأقصى المبارك.

ونجحت الشبكة الإعلامية الناشئة في تفعيل جزئي لدور العالم الغربي والإسلامي لاتخاذ مواقف مشرفة ومتضامنة مع قضية المسجد الأقصى، الأمر الذي اصبح واضحاً في ردود الأفعال العالمية المستنكرة لانتهاكات الاحتلال المتعددة، وتفنيد كافة ادعاءات المؤسسة الإسرائيلية حول أكذوبة الحفاظ على الوضع القائم في المسجد الأقصى، والمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس المحتلة.

لماذا الأن؟

يصادف الشهر القادم حلول عيد الفصح العبري الذي تصاحبه اقتحامات مكثفة للمسجد الأقصى من قبل مجموعات يهودية تنادي بـ"حق" الصلاة لليهود فيه، وسط دعم سياسي من الحكومة والكنيست الاسرائيليين. ومن أجل التمهيد لفرض هذا الأمر، فإن الاحتلال يعمل على صعيدين الأول هو تفريغ المسجد الأقصى من المسلمين، والثاني التعتيم على كافة ممارساته الاحتلالية بحق المسجد والمصلين فيه.

ويتوقع مراقبون أن يشهد هذا العام تصعيدا غير مسبوق في كمّ المخططات التي يسعى الاحتلال جاهداً الى تطبيقها ميدانياً في المسجد الأقصى، وعلى رأسها فرض التقسيم الزماني كخطوة تمهيدية للتقسيم المكاني للمسجد بين المسلمين واليهود، كما هو حاصل منذ العام 1994 في المسجد الابراهيمي في مدينة الخليل.

الا أن بوادر التفاف الشارع الفلسطيني حول المسجد الأقصى المبارك، قد بدأت تظهر في أكثر من شكل وعلى رأسها الإحياء المتواصل للمسجد دون انقطاع. وهذا ما أصبح يشكل تهديداً جدياً للاحتلال حول مقدرته في مواصلة المخططات الرامية الى تهويد القدس وبناء هيكل مزعوم على أنقاض المسجد الأقصى.

الصمود الفلسطيني في المسجد الأقصى المبارك وضع الاحتلال أمام خيارين أحلاهما مر: الأول كشفه عن وجهه القبيح الذي تزينه الأحقاد العنصرية أمام العالم، ومواصلة إرهابه الاحتلالي على الملأ، كمنع دخول المسلمين للمسجد والاعتداء عليهم واعتقال العشرات أسبوعيا بحجج ودواع واهية، ما يكثف عليه الضغط في الرأي العام الدولي ويفند أكاذيبه. والثاني التنازل عن حلمه الاسطوري مؤقتا، ما يعرضه الى مواجهة خاسرة مع التطرف المستشري في المجتمع الإسرائيلي الذي بات يتحكم في مسار الحكم في المؤسسة الاسرائيلية.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]