منذ الانخراط الأميركي التفاوضي الجدّي تحت سقف إنجاز اتفاق حول الملف النووي، بعد سقوط الرهان على خيار التدخل العسكري في سورية وولادة التفاهم على السلاح الكيماوي السوري، كان واضحاً أنّ التجاذب المتواصل في المنطقة، وبقوة وعنف، ليس حرباً مفتوحة، لأنّ الحرب المفتوحة تحتاج أن يكون الخيار العسكري على الطاولة، وهو لم يعد عليها منذ لقاء كيري لافروف في مطلع شهر أيار 2013، لذلك كان واضحاً أيضاً أنّ كلّ ما شهدناه من أوكرانيا إلى سورية واليمن والعراق وولادة «داعش» ومشروع التدخل «الإسرائيلي» في جبهة الجولان لرسم خطوط حمراء وقواعد اشتباك جديدة، إنما يشكل مسرح رسم التوازنات والمعادلات التي ستحدّد الأحجام والأدوار في التسويات الآتية، وليس طريقاً لتحديد الوجهة بين خياري الحرب أو التسوية.
- كان التفاوت في مقاربة المسرح بين كلّ من واشنطن وحلفائها واضحاً، ويزداد وضوحاً، كلما ارتسمت معادلات جديدة في ميادين الاختبار والمواجهة، حيث تسعى واشنطن إلى ثلاثة أهداف معاً، توظيف أيّ تحسّن في الموازين في وجه روسيا وإيران وحلفائهما، أوراقاً تفاوضية جديدة، ترصيد كلّ تراجع في وضع حلفائها في حسابهم كخسائر تقيّد عليهم وليس عليها، صناعة المناخ الذي يسهم بالتأقلم مع واقع تفاوضي في ما يخصّ الرأي العام الأميركي أو في ما يخصّ الحلفاء.
- تبلور مستوييْن من الحلفاء في تلقّي السياسة الأميركية التفاوضية، مستوى أوروبا، التي تناغمت مع واشنطن وتهيّأت للتفاهمات، ولو على مضض خصوصاً بالنسبة إلى فرنسا وبريطانيا، ومستوى إقليمي محوره تركيا والسعودية وتتقدّمه «إسرائيل»، وضع ثقله لتغيير المعادلات ليس تحسيناً لوضع تفاوضي، بل رهاناً على خلق وقائع تجعل خيار التفاوض عبثياً وتمنح الأمل بالمضيّ في خيار المواجهة، وفي أغلب الأحيان تقدّم أوراق الاعتماد للأميركي تحت شعار «نحن قادرون فلماذا تستسلمون؟» وأحياناً كثيرة عندما تصل الأمور إلى اللحظة الحاسمة يبدو أنهم يريدون من أميركا أن تقاتل بالنيابة عنهم وهي قد ترجّلت عن حصانها.
- العام 2014 يقترب من نهايته، وواشنطن تحزم حقائبها من أفغانستان وترى كيف ستتواصل روسيا والصين وأفغانستان براً عبر الجغرافيا الأفغانية، وأهمّية أن تستبق ذلك بتفاهمات كبيرة مع أطراف هذا المثلث الآسيوي الروسي الصيني الإيراني، وأن تستخدم كلّ الأوراق قبل نهاية العام لترصدها في ميزان التفاوض، وترسم معادلاتها الجديدة، اليمن يؤرق السعودية، وسورية تقلق تركيا، وحزب الله معضلة «إسرائيل»، والحرب الأوكرانية تسير على إيقاع نتائج تسليح وتمويل جيش كييف من جهة للضغط على الأمن الروسي، وحرب أسعار النفط التي استهلكت المخزون السعودي النفطي والمالي من جهة أخرى، أملاً أن تصرخ روسيا قبل نهاية العام، راهنت روسيا على نفاذ الوقت الأميركي فكسبت، وراهنت أميركا على نفاد الوقود الروسي فخسرت، وتمّت التسوية الأوكرانية بشروط روسيا، واتضح مسار التفاهم مع إيران كخيار تخرج فيه طهران مرفوعة الرأس.
- فشلت «إسرائيل» في مغامرة رسم قواعد جديدة للاشتباك مع حزب الله، ونجح الحزب في تغيير قواعد الاشتباك ممهّداً للحملة العسكرية التي يشهدها جنوب سورية لضرب الحزام الأمني الذي حلمت به وخططت له «إسرائيل» وبذلت إمكاناتها ليكون بوليصة التأمين إذا سارت التفاهمات، فلا نجحت في تعطيل التفاهمات، ولا حافظت على بوليصة التأمين، وسعت تركيا إلى فرض واقع جديد في سورية عبر جبهة الشمال وهي ترى قواعد الردع تحكم جبهة الجنوب، فتتردّد وتختار عنواناً خجولاً هو رفات سليمان شاه، وفي منطقة تسيطر عليها وحدات «داعش»، لتدخل وتخرج خلال ساعات بقوة من خمسمئة جندي، من دون أن تتمكن من امتلاك قرار بالتدخل المباشر لتغيير معادلات الحرب في حلب.
وفي اليمن حاولت السعودية النفخ في تواجد منصور هادي في عدن وجعله عنواناً لاستقطاب ديبلوماسي وسياسي، أملاً في خلق واقع يمني جديد، فكانت النتيجة أنّ القوة العسكرية الوحيدة التي يمكن تجنيدها لقتال الحوثيين هي تنظيم «القاعدة».
- تقدّمت واشنطن نحو الاتفاق مع إيران، وبقيت الخرطوشة الأخيرة، زيارة رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو لتحريض الكونغرس الأميركي على الرئيس، الذي يتهمه نتنياهو بالتفريط بأمن «إسرائيل» ووجودها، والأمل عند نتنياهو في استنهاض اليهود واللوبيات، وأعضاء الكونغرس، بعدما رصدت له السعودية كلّ الدعم المالي اللازم، لتحريك اللوبيات، ونشر الإعلانات وتنظيم حملة إعلامية مواكبة، والنتائج تأتي كلها سلبية، ففشل نتنياهو وصل حدّ الخشية من مقاطعة أكثر من نصف أعضاء الكونغرس لكلمته.
- واشنطن تعرف أن حلفاءها لا يملكون القدرة على تغيير شيء، وتعرف أنهم في حربها المقبلة، الحرب على الإرهاب ليسوا إلا متفرّجين سلبيّين بلا إخلاص، في أحسن الأحوال كما هي تركيا وفقاً لكلام رئيس الاستخبارات الأميركية، وحلفاء ضمناً لـ«داعش» كما هم الأتراك أو لـ«النصرة» كما هي «إسرائيل»، أو لكليهما كما هي قطر، أو بيئة حاضنة كما هي السعودية.
- اللعبة انتهت من حيث يجب أن تبدأ النهاية، في رسم نهاية للحرب الأوكرانية، آخر الحروب تنتهي أولاً، وأوّلها تنتهي آخراً، فترتسم معالم العلاقة الأميركية الروسية، وبعدها الأميركية الإيرانية قيد الترسيم، ويبدأ المسار نحو المنطقة تباعاً، فعبثاً يتحدث نتنياهو وعبثاً ينتظره السعوديون والأتراك.
[email protected]
أضف تعليق