لا بد وان اكثركم لاحظ خطاب السيد ايمن عودة رئيس القائمة المشتركة. انه عودة الى الخطاب الذي مثل طرح الجبهة والحزب الشيوعي وكان الفاعل السياسي الابرز على الساحة العربية الفلسطينية في الداخل منذ النبكة وصولا الى نهاية الثمانينات. انه خطاب المواطنة!

في نهاية عقد الثمانينات ومع بداية التسعينات برز خطابان اساسيان على الساحة السياسية العربية في الداخل: الخطاب الاسلامي، والخطاب القومي.

كان المشهد السياسي حينها يتفاعل مع التاريخ متمثلا بقدوم الزعيم التاريخي ياسر عرفات الى البلاد وباتفاقات اوسلو وبحكومة اسرائيلية برئاسة رابين متجهة نحو السلام وتضخ الاستثمارات الهائلة في المجتمع العربي، كان كل شيء اقرب الى مقتطفات من فيلم خيال علمي الى ان انعكس الامر وصولا الى زماننا هذا.

على اثر تعثر اوسلو واغتيال رابين وصعود نتانياهو واليمين عام 1996 الى الحكم، والاستقطاب القومي السياسي بين اليهود والعرب، والذي اسر لب مؤيدي اليمين باستعدائه الفلسطيني اينما كان، ان في المناطق المحتلة او في الداخل، واعطى زخما اكيدا ليمين الخارطة السياسية الاسرائيلية، الزخم الذي لا يزال مختزنا الى يومنا هذا، على اثر كل ذلك خبا خطاب المواطنة الذي قاد المسيرة السياسية منذ النكبة وكان المؤثر الفاعل على الادبيات الحزبية حتى لمنافسي الحزب الشيوعي والجبهة في ذلك الحين.

وبما ان الطبيعة تأبى الفراغ، فقد تشكل خطاب آخر ذو وجهتين متفاضلتين تغذيتا من مفاعيل فكرية اجتماعية وسياسية منبعها المحيط العربي الشرق اوسطي: الخطاب الاسلامي والخطاب القومي.

الخطاب الاسلامي تشكل بفعل تأثير نشاط حركة الاخوان المسلمين على البيئة الاجتماعية التنموية وبالتالي السياسية منذ هزيمة 1967 على عموم الساحات العربية الشرق اوسطية ومنها الفلسطينية، وكذلك في الداخل.

خطاب الاسلام السياسي، الذي سرعان ما انقسم الى شقي الحركة الاسلامية على خلفية خوض انتخابات الكنيست، قال باعادة تشكيل الوعي السياسي على اساس ديني مستفيدا من تعثر خطاب المواطنة ونكوص الخطاب القومي منذ هزيمة حزيران وايضا لكون المجتمع العربي محافظا بالفطرة.

اما الخطاب القومي، وبالرغم من وهنه على خلفية هزيمة حزيران وفشل الانظمة الجمهورية في الدول العربية في تحقيق نجاحات تنموية واو اجتماعية تذكر، برغم هذا قام د. عزمي بشارة باعادة انتاجه محليا، ودعا الداخل الى الاصطفاف القومي في مجابهة المشروع (القومي) الصهيوني ظانا منه ان التشكُّل على اسس قومية هو البديل وان المواجهة السياسية هي في اساسها اثنية وان المجتمع العربي لن يحقق مطالبه الا اذا تبلور لديه وعي قومي كافٍ لمجابهة المشروع الآخر واجباره على تقديم تسويات وفق قاعدة "دولة مواطنيها" (وان كان المقصود قومياتها).
امام هذين الخطابين، وبرغم حقيقة استمرار كون الجبهة من الاجسام السياسية الاكبر عددا على الساحة العربية، تراجع خطابها وتآكل دورها في التأثير على الوعي السياسي وتبنت ادبيات التيارين الآخرَين مع ادخال "تحسينات لفظية" شكلية عليها، في خضم خوض نقاش فكري صاخب حول "حقوق الملكية" بالنسبة لابجديات سياسية يقول كل طرف انها من انتاجه الخاص.

وكانت النتيجة ان تراجع خطاب المواطنة من حيث كونه طبقيا بالاساس الى خطاب اثني، ومن حيث كونه تقدميا الى تقليدي ومن حيث كونه مطلبيا الى احلالي شوفيني.

طبيعة الحال، ان تأزم العلاقات العربية اليهودية في العقد ونصف الاخيرين مرده الى سياسة عنصرية متهورة للحكومات المتعاقبة بحق المواطنين العرب وكذلك على صعيد تدهور ملف المفاوضات بسبب تعنت اسرائيل بالاساس وخشيتها التوصل الى اتفاق سلام عادل وشامل يضمن الحقوق الفلسطينية.

الا ان غياب خطاب المواطنة، وتداعيات "الربيع العربي" على المشروعين الاسلامي والقومي، كان له اثر كبير في نمو الاحباط والشعور بالعدمية السياسية لدى قطاعات واسعة من المواطنين العرب في الداخل، مما ادى الى موقفين متناقضين: تعزيز دور موقف المقاطعة الايديولوجية من جهة وموقف التبعية السياسية الطوعية للاحزاب الصهيونية من الجهة الاخرى..

والحالة هذه، ياتي خطاب السيد ايمن عودة وكانه منزوع من السياق او كأنه "فلاش باك" من فيلم رأيناه قبل ثلاثين سنة! ولكنه خطاب جديد، جرى "تنقيحه" سياسيا ليتلاقى مع الابجديات القومية والاسلامية، وهو بارقة امل تهدف الى نزع فتيل المواجهة الاستقطابية بين المواطنين اليهود والعرب، ولربما الوصول الى صيغة مشاركة توافقية مع اليسار تقلب موازين اليمين الى امد بعيد او على الاقل تحسن الظروف المطلبية! 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]