حروب العصر الحديث تنتج فظاعات أكثر مما تقوم به "داعش" في سورية والعراق وسيناء وليبيا. في الحرب الأخيرة على غزة، دمرت دولة الاحتلال أحياء كاملة. الفرق بين ما قامت به دولة الاحتلال وما تقوم به داعش يتعلق بالصورة التي يجري عرضها للجمهور.

دولة الاحتلال تعرض صورة التقطتها طائرات المراقبة من مسافة عالية جداً لهدف ما على الأرض، يعقبه تدمير الهدف. مشاهد القتل والحرق للبشر في دائرة الهدف لا يشاهدها أحد حتى لو تم تصويرها بالصدفة من كاميرا تحاول توثيق الجريمة. قوة الانفجار واللهب المتصاعد منه والغبار الناتج عنه لا يترك مجالاً لمشاهدة صور الضحايا إلا أثناء عمليات الإنقاذ بعد القصف.

صور الأقمار الصناعية أيضاً نظيفة، تمكنك من التعرف إلى غزة قبل القصف وبعده. تحيطك علماً بعدد الأحياء السكنية التي أزالها القصف بالكامل، لكنها لا تعطيك الفرصة للتعرف إلى الضحايا أو مشاهدتهم أثناء موتهم. يمكن البحث عما تبقى من سكان أحياء في مدارس وكالة الأمم المتحدة للاجئين حيث يمكنهم الحصول على بعض الطعام.

المشهدان، الدمار واللاجئون، حزين بلا شك، يتيح للمشاهد تخيل بشاعة الجريمة التي نفذتها دولة الاحتلال. لكن المشهدين لا يوثقان تطاير أشلاء الضحايا في الهواء واحتراقها ولا يتيحان مشاهدة عيون الضحايا أثناء قتلهم. وحتى لو أمكن توثيق كل ذلك من قبل الفلسطينيين أو من دولة الاحتلال نفسها، فإن الرغبة معدومة لدى الطرفين في عرضها على الجمهور. الأول احتراماً لضحاياه، والثاني خوفاً من ردة فعل الرأي العام ضده بما ذلك رأي مواطني دولته.

الفرق بين دولة الاحتلال وبين داعش، أن الأولى تحاول إخفاء جرائمها باستخدام أحدث وسائل القتل، بينما تحاول الثانية استعراض وحشيتها باستخدام أكثر الوسائل القتل بدائية. في حين تسعى دولة الاحتلال لإخفاء الضحايا تحت مئات الأطنان من الركام، تقوم داعش بقتل ضحاياها وتصويرهم ثانية بثانية إما بإلقائهم من سطوح الأبنية العالية، أو رجمهم بالحجارة، أو حرقهم، أو ذبحهم. وقد تأتينا الصور في قادم الأيام بفنون جديدة في القتل لا طاقة لخيالنا المتواضع على التنبؤ بها.

"داعش" ومن قبلها "القاعدة"، ترغب بتصوير مشاهد قتلها لضحاياها وإخراجها بطريقة سينمائية عالية الجودة. ربما درس بعضهم الإخراج في أفضل المدارس العالمية، وربما كان لبعضهم تجارب عمل في إنتاج أفلام في السابق، وربما كان بعضهم من عشاق الكاميرا سابقاً ويتقن الوقوف أمامها مثل فضل شاكر.

لماذا تقوم "داعش" بكل ذلك؟ لماذا لا تكتفي بإصدار بيان بعملية القتل بدلاً من عرض مشاهد الجريمة نفسها؟ لماذا هذا الإصرار على نشر الصورة مرفقاً بخطاب يتوعد الغرب وحكام المنطقة والشيعة وأصحاب الأديان الأخرى بمصير مماثل؟

دعونا نعد إلى طريقة تفكير القاعدة حتى نفهم السبب. "داعش" في نهاية المطاف من إفرازات "القاعدة" وليست تنظيماً مختلفاً عنها ولا يوجد فرق بين الطرفين لا في الجذور الفكرية ولا في الممارسة العملية ولا في الشبكة التي تتم من خلالها عمليات التجنيد والتعبئة. في الجذور الفكرية "داعش" تعتبر أبو مصعب الزرقاوي أبوها الروحي وهو مؤسس "القاعدة" في العراق وقائدها. وفي الممارسة العملية لا تختلف جريم قتل الأطفال التي ارتكبتها طالبان - باكستان المنضوية تحت لواء "القاعدة" عن الجرائم التي تجري في سورية والعراق وليبيا وسيناء.

والشبكة هي هي، حيث ينتقل أفراد "النصرة" التابعة للقاعدة إلى "داعش" والأخيرة للنصرة بحسب موازين القوى في المناطق التي يجري عليها الصراع بينهما.

"القاعدة" فكرياً، ليست نتاج أي من الأفكار التي يمكن إعادتها لمفكرين إسلاميين، هناك خطأ شائع مثلاً يقول إن "القاعدة" تؤمن بأفكار سيد قطب. لكن قطب لم يدع يوماً في حياته إلى جهاد عالمي. قطب كان يدعو إلى محاربة "العدو الداخلي"- الحكام "الكفرة" - من أجل بناء "دار الإسلام." ففي فكره، هؤلاء الحكام هم من يجعلون سيطرة "الغرب" على المنطقة ممكنة عبر تبنيهم ثقافة الغرب. "تخلص" منهم وأقم "حاكمية الإسلام" تتخلص من سيطرة "الغرب،" هذا ما دعا إليه قطب.

الجهاد العالمي هو نتاج فكر ابن لادن والظواهري. هو مساهمتهم الفكرية في "ثقافة الجهاد." في تقديرهم أن الانتصار على "أدوات الغرب" في المنطقة (الحكام) غير ممكنة لأن المسلمين منقسمون تجاههم. تجربة الجهاد الإسلامي الفاشلة في مصر، وجبهة الإنقاذ في الجزائر أدلة حية في تقديرهم على صحة تفكيرهم. في كلا البلدين - مصر والجزائر - لم يتمكن التنظيمان من الانتصار لأن شعبي البلدين لم يقفا معهما. الحل بالنسبة لهما هو في استدعاء "الغرب" للتدخل المباشر في المنطقة. عندها فقط ستتوحد راية المسلمين، لأن الحرب لن تكون مع أدوات مختلف عليها، بل مع عدو سيكون على محاربته إجماع إسلامي. وفي الحرب، القاعدة ستكون رأس الحربة والقيادة الملهمة.

لهذا لم تكن جريمة تفجير برجي التجارة العالمي في العام 2001 مجرد عمل انتقامي من الولايات المتحدة، كانت محاولة ناجحة لجرها لأفغانستان لمحاربتها. الوسيلة (استخدام طائرات مدنية كأداة قتل) والهدف (برجا التجارة العالمي، البنتاغون، والبيت الأبيض) وعدد الضحايا (أكثر من 3000) ما كان بإمكانه إلا أن يؤدي إلى إعلان الولايات المتحدة الحرب على أفغانستان. قادة القاعدة عملوا على ذلك وحصلوا على أكثر مما خططوا له عندما احتلت أميركا العراق بغباء بوش الشديد وتحريض بعض العرب على احتلاله. في أفغانستان والعراق تم استنزاف أميركا، وتحولت القاعدة إلى ملهم "للجهاد" خصوصاً في مناطق العراق السنية التي تحولت اليوم إلى جزء من "الدولة الإسلامية".

"داعش" و"النصرة" وغيرها من التنظيمات التي فرختها "القاعدة" لديها التفكير نفسه. العمل بكل الطرق لـ "جر" الغرب للتدخل المباشر في سورية والعراق وليبيا. القتل السينمائي هدفة التحريض على التدخل. المشكلة لديهم فقط تكمن في أن أعداد "الغربيين" بين أيديهم محدودة ولا تكفي لاستدعاء تدخل "غربي"، لذلك يأملون من خلال نشر مشاهد القتل بشكل وحشي، ومن خلال الأعمال الإرهابية التي ينجحون في القيام بها من فترة إلى أخرى في الغرب، ومن خلال استهداف الأقليات من الزيديين والمسيحيين تسريعَ عملية التدخل الغربي في المنطقة. عندها فقط في تقديرهم يمكن كسب المعركة، لأن "المسلمين" سيقفون معهم في مواجهة الغرب القادم لاحتلالهم.

في حسابات "داعش" ومثيلاتها، الفرصة لتوحيد المسلمين ضد الغرب وتحت رايتهم عالية جداً. الغرب مكروه بسبب احتلاله السابق للعالم العربي ودعمه إسرائيل، وتدخله المباشر سيوفر فرصة لتوحيد الجماعات الإسلامية خلف عدو مشترك تمتلئ أدبياتهم بالدعاية ضده.

حتى اللحظة، لم تنجح داعش في خططها بسبب رفض الغرب وتحديداً إدارة أوباما للتدخل المباشر والاكتفاء بالضربات الجوية، لكن هنالك ضغطاً شديداً على إدارة أوباما من حلفائها في المنطقة ومن الجمهوريين للتدخل المباشر. إذا ما حدث ذلك فإن "داعش" تكون قد حققت ما تريد من أفلامها.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]