إقبالنا اليوم إلى القديس مارون الناسك الذي عاش في القرن الرابع في ضواحي حلب، التماس لبهاء سطع في انطاكية كلّها، مع القديسين والرهبان المشرقيين، الذين دمجوا خريطة المشرق من سوريا إلى العراق فلبنان بقداستهم ونسكهم. من هذه الديار سطعت القداسة، وهي تاريخيًّا كما صحراء مصر مع أنطونيوس الكبير ورهبانيته، مدى للنسك الشديد الملتمس للمسيح بمجده، وهو المتحرّك بهم في تلك القفار. لقد تميّزت حلب وجوارها، القريبة من أنطاكية، بهذا النمط وبخاصّة في القرن الرابع بين مارون الناسك وقدّيس عظيم آخر هو سمعان العموديّ، (389-459)، الذي عاش على عمود طوله خمسة عشر مترًا في جبل سمعان في حلب.

ليس دقيقًا على الإطلاق القول بأنّ القديس مارون مؤسّس الطائفة المارونيّة كما اشار المطران يوسف الدبس وآخرون. الارتكاز إلى تلك الرؤية يلزمه تنقيب كبير وتدقيق عميق، على الرغم من أن له مريديه وتلاميذ كانوا امتدادًا له. هو لم يرد لنفسه شيئًا، بل كان في طبيعة نسكه يدلّ المؤمنين إلى المسيح كما فعل سمعان العموديّ المعاصر له، وكما فعل معظم القديسين النسّاك بين سوريا ومصر. بمعنى أن مارون العظيم، لم ينحت له طائفة منحصرة في الوجود، لها عصبويّتها ونظامها وخطابها. بل كان وجهه مشدودًا إلى السماء، إلى الضياء.

موارنة لبنان والمشرق، الذين يلتمسون شفاعة القديس مارون، كما كلّ مسيحيي المشرق، تأسّسوا بكيانهم على يد البطريرك يوحنّا مارون المتوفّي في جبل لبنان سنة 707، وهو بدوره راهب أنطاكيّهرب من محاربة الإمبراطور يوستينيان الثاني له، ولجأ إلى كفرحيّ في البترون حيث أسّس فيها أول بطريركيّة مارونيّة، وما لبث الموارنة أن انتشروا ككنيسة وطائفة لها نظامها وطقسها منتمية بعد ذلك إلى الكنيسة الكاثوليكيّة الجامعة. يسوغ بهذا المعنى أن يقول الموارنة بأنّ القديس مارون هو شفيع الكنيسة المارونيّة، ولكنّه ليس مؤسّسها بالعمق التاريخيّ.

تجليّات مارون بهذا المعنى تقودنا في عيده اليوم لكي نتأمّل في واقع الموارنة من لبنان إلى المدى المشرقيّ العام. ذلك أنّ ثمّة مشكلة بنيويّة بالبطريركيّة المارونيّة فيما مسيحيو سوريا والعراق وصولاً إلى لبنان هم الجرح النازف،على الرغم من أن البطريرك المارونيّ مار بشارة بطرس الراعي التمسه ووضع الإصبع عليه بزياراته إلى دمشق وفلسطين والعراق والأردن. غير أنّ المشكلة محصورة في بنية الخطاب السياسيّ للكنيسة المارونيّة بصورة عامّة وفي بعض المفردات التي تجعل الموارنة هنا وفي الاغتراب محصورون قوميًّا في لبنان، سواءً بالطقوس أو اللباس الكهنوتيّ، أو عظات الأساقفة والكهنة. فتأتي بعضها لتشير على سبيل المثال لا الحصر بأنّ البطريرك الراعي هو بطريرك لبنان، فيما هو في حقيقته بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للموارنة. لقد دلّ التاريخ المعاصر أن انحصار الموارنة في لبنان، أفقد دورهم الطليعيّ في دنيا العرب على مستوى النهضة العربيّة بدءًا من المطران جرمانوس فرحات (1670-1732) وقد كان مطرانًا للموارنة على حلب، الذي وضع أسس النهضة العربيّة، بعمقها اللغويّ والإعراب والمنطق والفلسفة، وأسّس المكتبة المارونيّة في حلب، والتي ضمّت مخطوطات وكتبًا، اعتبر العديد من المؤرخين أنّها أغنت هذه المدينة في العمق الأدبيّ والفلسفيّ، وكانت التعبير الأوّل على التلاقي الثقافيّ بين الشرق والغرب، وصولاً إلى البساتنة وجبران وسعيد عقل ومن إليهم، ومن دون أن ننسى باقي المسيحيين الذين دمجوا ما بين المسيحيّة ببعدها اللاهوتيّ المسيحانيّ والسياق المشرقيّ والعروبيّ، في تنصير كامل لها.

ولم يكتفِ الموارنة بفقدانهم دورهم الطليعيّ، بل ازدادوا تمزّقًا في سلوكياتهم ضمن حروب من أجل الآخرين والكلمة للراحل غسان تويني، وفي صراعهم على السلطة، وتقزّمهم المريب والمقلق والمقرف في عمق الصراع وبخاصّة في الآونة الأخيرة. وقد تكامل ذلك مع إصرار بعضهم على نأي أنفسهم من الجوهر المشرقيّ الذي جاءوا منه أصلاً، وهم ليتورجيًّا وعقيديًّا منتمون إليه. وذهب بعضهم في الإصرار السياسيّ على مبدأ النأي بالنفس،نظريًّا، انسجامًا مع مفهوم "لبنان أوّلاً" الذي أطلق غداة استشهاد رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، فلم يبدُ الانسجام بريئًا على الإطلاق، لكونه انفصل عن حقيقة الميثاق الوطنيّ بين بشارة الخوري ورياض الصلح بالتوظيف السياسيّ. ذلك أنّ بعضهم وجد مساحة استجمع فيها الحقد القوميّ غير الوطنيّ على سوريا إسقاطًا لتاريخ الحرب اللبنانيّة، ففجّره، وجعله إطارًا للانتقام في ظلّ الأحداث الحالية، فيما مسيحيو سوريا معلقون على خشبة الخوف والموت، وهم في الأصل كما مسيحيو العراق والقدس ومصر والأردن قرأوا أن موارنة لبنان في امتدادهم المشرقيّ وعمقهم الكيانيّ، هم صمّام أمان لبقائهم واستمرارهم.

لا شكّ أن زيارة البطريرك المارونيّ بشارة الراعي إلى دمشق بالتحديد خلال تنصيب البطريرك الأرثوذكسيّ يوحنّا العاشر يازجي، أسّست لرؤية جديدة متلاقية مع حقيقة الموارنة الجذوريّة ومتحرّرة من الاصطفاف السياسيّ الضيّق، كما أنّ زيارة الحج التي شاءها العماد ميشال عون لأديرة صيدنايا ومعلولا وصولاً إلى كنائس حمص القديمة، وصولاً إلى دير مار مارون في حلب وبراد قبل أن تحترق بنيران الصراع والانقلاب، أعادت الموارنة سياسيًّا إلى هويّتهم الحقيقيّة، وأعادت التأكيد لمسيحيي المشرق بأنّ موارنة لبنان لا يحيون بالاستقلال المنغلق عن سياق هذا المشرق بأحداثه وتداعياتها، بل يستدلّ على مسيحيي المشرق من خلال رعاية مسيحيي لبنان لهم.

وفي سياق متصل، إنّ المرحلة الحالية، التي يعيشها لبنان يعيشها المشرق برمتّه في صراع جيو-سياسيّ وجوديّ وخطير، تتطلّب من موارنة لبنان ومسيحييه الذين يستذكرون بشوق كبير القديس العظيم مارون، أن يبطلوا صراع الأنبياء على مسرحهم، ويرسّخوا في بنيتهم الوحدة الوجوديّة في منطلقاتهم، وإن تنوّعت القراءات السياسيّة عندهم. من المفيد الاعتبار بأنّ التنوّع ضروريّ إذ يثبّت منهج الحوار في بنيتهم، وبخاصّة في العناوين السياسيّة والاقتصاديّة المرتبطة بالإطار الوطنيّ العام. لا يسوغ في هذا المجال أن يدأب القادة الموارنة على الاستمرار في مفهوم الصراع على السلطة ولو على حساب المسيحيين في لبنان والمشرق العربيّ، وهذا في حقيقته أدّى في لبنان ليكونوا دائمي الاستيلاد في كنف الآخرين، مما أفقدهم مناعتهم وقدرتهم على مقارعة الوجود بهويتهم كمكوّن تاريخيّ وروحي ووطنيّ.

الدور الماروني، يتجلّى بالبحث عن الذات المتكاملة مع مسيحيي المشرق، والمرتقية إلى وحدة وطنيّة في لبنان إنطلاقًا من وحدة وجوديّة، والمؤسّسة لجمهوريّة ترنو نحو الاستقرار بوحدة يقودها رئيس يعبّر عن تلك الذات بحيثيّته التمثيليّة بالتكامل مع الطوائف الأخرى. موارنة لبنان بهذه العناوين يكونون قدوة للجميع أو عثرة تقود إلى السقوط المستديم.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]