"لقد استبد عليّ هاجس النهاية منذ أدركت أن الموت النهائي هو موت اللغة إذ خُيِّل إليَّ بفعل التخدير أنني أعرف الكلمات، وأعجز عن النطق بها فكتبت على ورق الطبيب.. لقد فُقدت اللغة أي لم يبقَ مني شيء."
محمود درويش
من المَفهوم ضمنًا أنّ اللغة هي أولى أدوات الطفل ، تُرافق تفاصيل حياته مُذ نعومة أظفاره حتّى الأجل المحتوم، للغة انعكاسات شتّى: بها يُعبّر عن نفسه وعمّا يجتاح داخله ، بعدة مجالات وعدة طُرق ، بها يُحلق في سماء المَعرفة ، بها يطال عنان السماء بالعلم والثقافة ، بها يُحدد هويته وبأحرفها لا يضيع ، مُفرداتها هي شموع الدرب، اللغة هي العامل الأشد وضوحًا كي نتواصل بها مع الطفل ، بالمُقابل كي نفهم حاجاته ورغباته ، غضبه ، وتذمره ، فرحته وحزنه ، هي كل ما يكمن في داخله ، هي الطريقة الأنسب ليخرج الطفل خليط أحاسيسه إلى النور.
لغتنا العربية هي اللغة الاغنى والاجمل بين كل لغات أهل الأرض ، التاريخ يشهد بكلّ ما يملك من إبداع .كانت اللغة العربية من أهم اللغات وانتشرت في العديد من دول الشرق والغرب، وتركت أثرًا ملحوظًا في بعض اللغات ، مثل اللغة المالطية، اذ ان اكثر من 60% من كلماتها هي كلمات عربية .
كبرنا على احترام لغتنا العريقة, وتطويرها والمحافظة عليها. وترعرع جيلنا على القصص القصيرة الشيقة التي كتبت بلغة عربية راقية ، كانت تلك القصص عامل رئيسي في تحفيزنا على القراءة ، وتوسيع ثروتنا اللغوية, كما ولأفلام الكرتون حصّة لا بأس بها من التأثير الإيجابي على نمو اللغة لدينا ، فبالإضافة إلى عنصر الإثارة والتشويق ، علمتنا الكثير من المفردات وكيفية التحدث بلغتنا العربية الفصحى.
نلاحظ في الآونة الأخيرة تدني مستوى قصص الأطفال الحديثة, والبرامج الكرتونية, فالاغلبية الساحقة من هذه "الابداعات" الجديدة, تافهة المضمون ، ذات لغة ركيكة !
نلاحظ هذا التدني في جميع ارجاء الوطن العربي بشكل عام ، وفي المناطق الفلسطينية المحتلة بشكل خاص!
كل شيء حولنا يوحي أن هذه الانتاجات "قد" تكون أسلوب ممنهج للتجهيل ولإنتاج جيل جديد من العرب الفلسطينيين داخل إسرائيل ، أي " عبرنة " المُخ كما أي شيء آخر ، ومحاولة لإنشاء جيل جاهل لا بعيد كُل البعد عن لغته ، يَجهل أهميتها وينبذها ويصنفها على أنها لغة ثانية وليست لُغة أُم ، جيل لا يعي أهمية لغته في تطوير شخصيته التي تُساهم في حصد النجاحات في الحياة .
يقال: "اذا اردت أن تقتل شعباً فاقتل لغته أولاً", وها هي لغتنا تقتل الف مرة كل يوم, لغتنا تعذب وتُغتصَب وينكل بها من هذه المؤسسة أو تلك ، من منهج جديد لا يمت بصلة لها ، لغتنا تهان يوميًا , مني ومنك ومنها ومنه !فمتى ننهض مُتحدين , متى يستيقظ فينا حُبنا للغتنا ، لننقض باسناننا ممُزقين المنتهكين لشرف هذه اللغة !
هناك مشروع جديد نسبياً, اطلقته وزارة التعليم الإسرائيلية يسمّى "مكتبة الفانوس", يسعى هذا المشروع الى "تعزيز العلاقة بين الطفل والكتاب" وتشجيع الاهل على القراءة لأطفالهم . وتشجيع الاهل على تشجيع اطفالهم على المُطالعة ، من خلال هذا المشروع, حصل قريبي ابن الخمسة سنوات على كتاب اسمه "من لحس قرن البوظة" في الروضة, طبعاً . لغة الكتاب ركيكة وضعيفة ولا تمت للعربية بصلة, لكن هناك امر في الكتاب لا يقل خطورة عن ركاكة اللغة؛
تصادف الطفلة في هذه القصة خمسة شخصيات رئيسية! الغول, والتنين, والغرفين (حيوان له رأس طائر واجنحة), وحورية (هاي مقبولة), وعملاق بخمسة رؤوس (كثير هيك!!!), وكل هذه الشخصيات رسمت في القصة بأشكال مخيفة, وكل هذا الشخصيات بدون استثناء لحسوا من بوظة طفلتنا الصغيرة, وفي النهاية أكملت هي ما تبقى من البوظة!
أطالب الكاتبة "رانيا زغير" والفنانة التي رسمت الشخصيات "راسيل إسحق" والممولون: وزارة التربية والتعليم وصندوق "هارولد غرنبسون" وصندوق "برايس" بتوضيح الهدف الحقيقي وراء هذه الشخصيات وصورها المخيفة ، فإذا كان الهدف فعلاً تعليم الأطفال : الإعتماد على النفس وعدم استشارة الاخرين" فهذا الهدف لم يصل الى الجهة المستهدفة, وهم للأسف أطفالنا, والنتيجة الوحيدة المؤكدة من قراءة قصة كهذه هي عقدة نفسية ونفور أطفالنا من القراءة والقصص!
(انا شخصياً أعتقد ان لهذه القصة آثارٌ جانبية أخرى, كالخوف من البوظة, سننتظر الصيف ونرى!!!)
اثارتني جملة مما كتب على غلاف هذه القصة, "إنها فسحة لمشاركة الأفكار والمشاعر, وللحوار حول القيم إنسانية....." , لا اعرف عنكم ، لكنني عندما اتزوج وانجب اطفالاً, اود لأطفالي ان يتعلموا مشاعراً وأفكار وقيم إنسانية أهم وأعمق من عملاق بخمسة رؤوس يلحس بوظتهم ليعلمهم كيف يلحسون!
أطالب ايضاً القائمين على اخراج هذه القصة ومثيلاتها الى الضوء أن يقوموا بسحب هذه القصص المقززة المسيئة للأطفال ومشاعرهم, والبعيدة كل البعد عن الإنسانية, ان يقوموا بسحبها من جميع المدارس والحضانات والمكتبات, وان يعملوا على الرفع من مستوى القصص لغوياً واخلاقياً.
يجب الحرص جيداً على اختيار ومراقبة المصادر التي يتعلم الطفل لغته منها في صغره, فالأمر المهمّ في تطوّر اللغة لدى الطفل منوط بانكشاف الطفل على بيئة غنية تساعده على اكتساب هذه اللغة ، فانكشاف الأطفال لاختيارات غير مراقبة من قِبلنا " الكبار" يؤدي الى تنكير اللغة العربية لدى الطفل وتهميشها ، وجره لعالم التفاهات وإبعاده عن محور اللغة ، قراءة هذه القصص قد تؤدي الى طمس الذوق لدى الطفل, وتدمير لغته العربية من مراحل بناءها الأولى, وقد تتسبب ايضاً بطمس مشاعره وهويته الإنسانية!
أما آن الأوان للمثقفين العرب, والمؤسسات والجمعيات التربوية العربية, ونحن أهالي الأطفال وأقرباهم, وكل من يخاف على مجتمعه ولغته, اما آن لنا ان نعمل على مشاريع تخدم لغتنا وتخدم أطفالنا؟ وبالتالي نبني مستقبلاً أفضل لمجتمعنا!
لا أطالب بما هو تعجيزي وفوق الطاقة ، أطالب بمنهاج تعليمي تربوي هادف مستقل يخدم احتياجاتنا التربوية والتعليمية, وهو بطبيعة الحال حق أساسي لأي شعب ولأي أقلية في أي مكان في العالم, كما وأطالب بمشاريع لا منهجية تعزز لغة الطالب وأخلاقه وقيمه الإنسانية وتجعل من لغته شمسه وقمره في آن .
[email protected]
أضف تعليق
التعليقات
هاهاهاهاهاها