لم نكن في حاجة إلى تصريح الصحف الصهيونية بأن باريس لم تكن تريد مشاركة نتنياهو في مسيرة الأحد التي نظمت تضامنا مع صحيفة شارلي إيبدو، ولا قبلها وبعدها لتسريبات من لدن الصحافة الفرنسية وسواها من الصحف الأوروبية، فالرجل دون جدال كان عبئا على المسيرة، وهو أفقد منظميها البعد الأخلاقي الذي يرفعونه شعارا؛ ويزعمون الدفاع عنه(نشر الصحيفة لرسوم مسيئة جديدة أكمل القصة). فهذا الكائن الذي يسير في مقدمة المسيرة مهدد بالمثول أمام المحاكم الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وهو قبل 7 شهور لا غير كان قد قتل أكثر من ثلاثة آلاف فلسطيني أكثرهم من المدنيين العزل، وشاهد العالم على الهواء مجازر لا تحصى نفذتها قواته وطيرانه ضد قطاع غزة.
كيف يمكن لرجل كهذا مدان على نحو سافر بارتكاب جرائم حرب ضد مدنيين عزل، أن يكون في مقدمة مسيرة عنوانها التنديد بالإرهاب؟! المشكلة أن أحدا في فرنسا لم يكن بوسعه أن يقول له لا تحضر؛ ليس فقط لأن أربعة من اليهود سقطوا في متجر، وإن لم يكونوا من ضحايا الصحيفة، ولا من سياقها السياسي (الانتقام للإساءة للنبي محمد عليه الصلاة والسلام)، بل أيضا لأن حجم النفوذ السياسي للوبي الصهيوني في الدوائر الإعلامية والسياسية الفرنسية هو من السطوة بحيث لا يمكن لأحد أن يتحداه، وذات مرة قبل عقدين تقريبا؛ قال ميشال جوبير (وزير خارجية أسبق) أن أحدا بالفعل لا يمكنه أن يشكل حكومة في فرنسا لا تحظى بقبول اليهود في فرنسا، وفي إحدى وزارات الرئيس الأسبق ميتران كان تعداد اليهود يساوي النصف رغم أن عددهم في الجمهورية هو أقل من واحد في المئة من السكان، وإن كانوا الجالية اليهودية الأكبر في أوروبا.
أيا يكن الأمر، فقد فرض نتنياهو نفسه على مظاهرة باريس، وهو ما واجه هجاءً في الدوائر الإسرائيلية التي تناهضه، وترى فيما فعل محاولة لكسب الشعبية على أعتاب الانتخابات في آذار المقبل.
لم يتوقف الأمر عند ذلك، فقد تمكن نتنياهو، وبسطوة اللوبي الصهيوني أيضا أن يفرض على الفرنسيين السماح بنقل جثامين قتلى اليهود الأربعة إلى فلسطين المحتلة لدفنهم هناك، رغم أنهم مواطنون فرنسيون، ورغم أن أحدا من الحاخامات لم يعتبر أن دفن اليهودي خارج فلسطين المحتلة أمر محرم في الشريعة اليهودية.
أيضا لم يتوقف الأمر عند ذلك، ففي حين تجند فرنسا كل طاقتها من أجل حرب ما تسميه الإرهاب ذهب نتنياهو إلى استفزاز الفرنسيين أكثر فأكثر؛ أقله السياسيون منهم، وذلك باستغلال الحدث من أجل دعوة اليهود الفرنسيين اليهود إلى الهجرة إلى “وطنهم”، على اعتبار أن أي وطن آخر غير إسرائيل هو وطن عابر أو مؤقت؛ بل وهذا هو الأسوأ؛ غير قادر غلى تأمين الحماية لهم.
من المؤكد أن نتنياهو لم يكن يقصد تلك الطبقة المؤثرة من اليهود الفرنسيين، والذي يشكلون رصيدا كبيرا للكيان حيث همْ، أفضل بكثيرمن عودتهم إلى الكيان، لكن الدعوة ستمس الطبقة المتوسطة والفقيرة، وكثير منها للمفارقة من أصل مغاربي.
دعك من المزايدة في الخطاب السياسي، وما انطوى عليه من ربط واضح بين الإسلام والإرهاب في خطاب نتنياهو، وهو ما كان القادة الفرنسيون يتجنبونه ما أمكن ذلك، بخاصة أن أحد الشرطة الذين قتلوا كان مسلما، كما كان هناك محرر في “شارلي إيبدو” مسلما أيضا، والأهم أن من ساهم في إنقاذ الكثير من اليهود في المتجر (هو يعمل فيه) كان مسلما أيضا.
يبقى أن أهم ما يعنينا هنا هو أن حضور نتنياهو في المشهد قد أكد أن فرنسا، والغرب عموما لا يريد أن يفهم أن ما يسميه الإرهاب هو نتاج ظروف موضوعية، وهذا الظلم للفلسطينيين والانحياز لعدوهم، كان ولا يزال يمثل الجزء الأهم من أسباب العنف في المنطقة، وخطاب أسامة بن لادن كان واضحا على هذا الصعيد، حيث كان يكرر مرارا في خطابه للأمريكيين “لن تنعموا بالأمن حتى يعيشه أهلنا واقعا في فلسطين”، من دون أن يعني ذلك تبريرا لأي عملية قتل للمدنيين غير المحاربين في أي مكان في العالم، إذ إننا نفسر ما يجري ونضعه في سياقه الحقيقي أكثر من أي شيء آخر، من دون أن ننكر أن جزءا أساسيا من العنف الراهن ذو صلة بالغطرسة الإيرانية في العراق وسوريا، في حين لا يريد الغرب أن يدرك أنه من دون رفع تلك المظالم، فإن دورة العنف لن تتوقف، لأن المظلومين سيواصلون احتضان حملة السلاح والدفاع عنهم.
[email protected]
أضف تعليق