من المخاطر الحتمية للشعبوية هو تمكنها إقناع عدد كبير من الشعب ممن يشكلون غالبية، بالقبول بسلطة الفرد. والشعبوية بما تحمله من طرق وحيل لدغدغة المشاعر ومخاطبة العواطف لا العقل؛ هي طريقة مثلى لإحكام سيطرة ممارسها، الحاكم أو السياسي الذي يشغل منصبا ما، للإبقاء على جهل الشعوب وتغذية المزاج السائد والذوق العام بالمزيد من السطحية بالطرح والانفعالات التي لا تسمن ولا تغني من جوع عبر استثمار الطاقات في مغازلة البنى التقليدية كالعشيرة والقبيلة والطائفة.

الظروف التي نعيشها كأقلية قومية، والتي حتمت خوض المعترك السياسي بما فيها الكنيست أتت بالكثير من الويلات وذلك لانعدام المرجعيات المبنية على الرؤية الوطنية، إذ تحول العمل السياسي لدى البعض من سياق نضال الأقلية ضد الدولة إلى سياق “العمل في السياسة”، وعلى هذا المنوال أخذ البعض على نفسه دور السياسي بدلا من دور القائد، وشتان ما هذا وذاك. فلكي تغدو قائدا سياسيًا ناجحًا، يعمل لمصلحة قضايا شعبة، عليك فعل الكثير في مختلف الميادين، في ظروفنا مثلا، البرلمان ولجنة المتابعة والسلطات المحلية وبناء وتطوير المؤسسات الجماهيرية وتطوير جهوزية الشارع للنضال الشعبي والجماهيري. أما لكي تكون “سياسيًا ناجحًا” فيكفي أن تكون شعبويًا.

وتتجلى صفات السياسي الشعبوي في اتقانه استعمال الآليّات الاعلامية والخطابية لتحويل "عامة الشعب" من عنصرٍ فاعلٍ في المشهد العام إلى متفرج، أو قل متلقٍ، "يُكبِّر" ويصفق لكل صغيرة وكبيرة ويهلل لمن "يحمل صوته" ويخرسه في آن. لا أقول أن الخطابة وفنها ليست من أدوات القائد السياسي، إلا أن انزلاقها إلى ممارسات إقصائية انتقامية وسلوكيات نرجسية تقدس الشخص أو الحزب، قد تؤدي إلى عزوف “الشارع” عن الممارسة السياسية وتسمح بظهور متسلقين على اكتاف الشعب، يقولون بالشعبية عبر ممارسات شعبوية.

كثيرة هي الموضوعات في واقعنا السياسي التي من شأنها أن تشكل مادة ممتازة للسياسي الذي يمتهن الشعبوية وآلياتها المغرضة، خصوصًا تلك المواضيع التي تندرج في الإجماع الوطني العام. مثلا، عندما يصور السياسي الشعبوي نفسه كمدافع مستميت عن حرمة المسجد الأقصى عبر ادعاءات لا تمت له أو لفكره وخلفيته الثقافية بشيء، واستعمال كلمات وقوالب لفظية تثير المشاعر والنعرات العاطفية، كالقول: "الأقصى هو مكان صلاة للمسلمين فقط!". للوهلة الأولى، قد نرى به شعارًا عابرًا بإمكان أي سياسي أن يقوله كونه يصب إلى حد ما في نطاق إجماع شبه كامل حول قضية الدفاع عن الأقصى، إلا أن الشعبوي المُجيد للخطاب والذي يتعامل مع الناس بمنطق العوام أو الرعية والعامة، لا يتحمل أي مسؤولية تجاه الجماهير عندما يختار سلخ قضية الأقصى عن أي سياق سياسي يتعلق باحتلال القدس وسيطرة الاحتلال على المقدسات، بل يذهب إلى الخطاب الديني البحت الذي ربما لا يتبناه أصلًا في خطابه السياسي أو الفكري بالضرورة (أو ربما يتناقض معه)، وقد يكون ذلك الشعبوي من أشد الناس عداء للاحتلال في مواضع أخرى، إلا أن تشخيصه للحاله في إحداثياتها يحتم عليه أن يحدث العاطفة لا العقل، لإلهاب المشاعر، تماشيًا مع المزاج السائد، من دون مراعاة أي فائدة في التعامل الجدّي مع المشاكل الواقعية. وكأن لسان حاله يقول: دعك من خطابات السياسة، ولا تكترث لعدم تبنيك للخطاب الديني، في هذا اليوم من السنة، يتوجب عليك أن تكسب قلوب المصلّين.

وقد يكون هذا الزمان الذي نعيش فيه بما يوفر من أدوات إعلامية تمكن السياسي أو صاحب المنصب من الوصول إلى كل فرد بشكل مباشر؛ من أكثر الأزمان خدمة وخصوبة للشعبوية، فمهمة 'يوليوس قيصر' في التحدث إلى "جموع الرعاع"، كانت على ما يبدو أصعب بكثير من مهمة السياسين الذين احترفوا مهنة التواصل بالشبكات الاجتماعية. كبسة زر واحدة، كفيلة بأن تفهم عددا هائلا من الجماهير أنك “صوت الشعب وضميره”، ولك أن تذهب أبعد من ذلك بان تحتكر تمثيلك له (الشعب) دون الاكتراث بأي مفهوم للتفويض أو التعاقد المبني على الآليات التمثيلة.

ولا تقتصر الخطورة التي أحدثتها الشعبوية في مجتمعنا على تمكن السياسي الشعبوي من آليات الاعلام الداخلي (العربي) وشبكات التواصل الاجتماعي فحسب، بل يذهب إلى استعمال آلة الإعلام الإسرائيلي للأغراض ذاتها، من منطلق المعرفة المسبقة بكون الإعلام الإسرائيلي أكثر مصداقية بنظر الشرائح الجماهيرية العربية الواسعة، كونها بوق المستعمر أو "الحكومة" في اللغة الدارجة، وبذلك يضمن السياسي الشعبوي تسويق مضامينة وشخصة بسبل أصلية أصيلة، تضعة موضع الشخص المهم، الضليع والعارف الذي لا منازع له في لغة العدو وطرقه، ويصبح أيقونة الكلام ونجم المنابر.

وقد تفقد هذة الشعبوية بعض وهجها عندما توضع على المحك، في البناء المجتمعي، في الأحداث الحرجة وفي القرارات الحاسمة والمحطات التاريخية التي تحتاج إلى قادة لا إلى أفراد اتخذوا من السياسة مهنة. عندما يُحرج السياسي الشعبوي ويفقد شروط الحياة، يراوغ ويناور ويصرخ وينتفض حتى يبدو للمتلقي أمره غريبًا، فذاك الذي اعتاد الناس عليه نجمًا ساطعًا قد يتحول بفعل أدواته العاطفية إلى الابتذال، حتى ينطفئ ويتحول خطابة السياسي إلى خارج المكان، حينها فقط يبرز الفرق بين الشعبوية كسبب، والشعبية كنتيجة. 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]