الكاتبة الصحافيّة اللبنانيّة :غدي فرنسيس، من مواليد بلدة الكورة 1989 ،مراسلة تلفزيون الجديد ،كاتبة في جريدة الأخبار ،دَرَسَتْ علوم الحياة والعلوم الاجتماعيّة في الجامعة اللبنانيّة ،دخلت سورية الجريحة كصحافيّة عام 2012 ،في الثّالثة والعشرين من عمرها ،مَكَثتْ هناك مئة يوم ،لِتغطّي الاحداث ،واذ تجد نفسها مُتمزّقة بين مُوالاة ومعارضة ،تبدأ بمساءلة قناعاتها وأفكارها ،دوّنتْ ذلك على الغلاف الأخير من كتابها ،دارت على المناطق السّوريّة من بيوت رجال الدّين ،إلى أوكار المُعارضة ،الى شوارع الثّورة ،وعادت بكلام يكفي لِيُعاديها الطّرفان ،في النّهاية اعْتُقِلَتْ ورُحّلَتْ ومُنِعَت من دخول سورية .صدر الكتاب عن دار السّاقي ،بيروت ،2014 ،عدد الصّفحات 290 ،حجم متوسّط ،تقول في مقدّمتها :حين ذهبت الى دمشق ، آذار 2012 ،كانت مفاجأتي أنّ بشّار الأسد له وجوه أخرى ، وأنّ الثورات لها وجوه أخرى ، وأنّ ما يجري في المنطقة معقّد ومُتشعّب ،وأن الشعب السوري فيه أطياف متنوّعة ،منهم من يستعدّ لِأن يموت في تظاهرة ضد الرئيس، ومنهم مَن يستعدّ لأن يموت على باب القصر مُدافعاً عن الرئيس ....الكاتبة ،جريئة ،مقدامة ،مغامرة ،عرّضت نفسها للخطر ،اقتحمت الأهوال ،لتنقل لنا صورة ميدانيّة عمّا جرى هناك، من بين المواضيع التي طرقتها :من الشّام الى الّلاذقيّة وَحِمص ،وُجوه ومعارضة ،مُحامون يدّعون على الجزيرة ، حِمْص في الشّارع رُعب ودمّ وأمل، قمح حوراني واحد في محافظتَي جبل الدّروز ودرعا، المعارضة السّوريّة ما لها وما عليها ، ماذا تفعل لو كنتَ بشّار الأسد ، ترحيل وحرمان من بلادي ....هذا بعض ما جاء في فصول الكتاب السّتّة .

تحت عنوان :وجوه معارضة ،كتبتْ غدي ص 35 :لدمشق قاموس خاص ،بوسّع رداء المعارضة ،ليضمّ تحته مختلف وجهات النّظر وطُرق التّعبير ،فالمعارضة تُراوح وتمتد من طالب الجامعة الذي لا يثق بأيّ تغيير يأتي على يد هذا النّظام ،الى المثقّف الحموي الذي لا يرى مخرجاً لائقاً للبلاد، سوى بتغيير حقيقي يقوده الرئيس بشار الأسد، ولا أحد يستطيع أن يطبع جبين أحد ويصنّفه مُعارضاً أو موالياً، فيوميّاً تتعدّل وجهات النّظر ، أو تتبدّل طاولات المقاهي والبيوت والمكاتب خير شاهد على الحراك الفكري والنّقاش المفتوح الآخذ بالتّوسّع ...

تحت عنوان :تاريخها في شوارعها ،كتبت المؤلّفة ص52 مقارنة عابرة بين العاصمتين الشّقيقتين ،الشّام وبيروت :في سوريا آثار هويّة تفتقدها بيروت ،سيراً على الأقدام ، أو جولة سيّارة ،ترمق دمشقُ زائرَها بنظرة الانتماء ،عربيّة أصيلة ،تحتفظ بذكريات الأبطال ومعارك التّحرير ،عيدها الأوّل عيد الجلاء ،وساحتها الأكبر ساحة الأمويّين ،تشرب بيرة اسمها :بردى، وتحجّ في الزّمن الذي لا تزال آثاره واقفة وسط العواصف ،تغار العين البيروتيّة العابرة في شوارع دمشق القديمة ،لو أن بيروت احتفظت بثوب زمانها !تؤلمها سوليدير اذ تمرّ تحت باب شرقي أو باب السلام ،أو القوس الروماني في الشّام العتيقة ،ما تفتقده عين زائر بيروت من تراث لوقفات العزّ ،يتناثر فوق لافتات شوارع الشّام ،هنا شارع ميسلون ،وهناك شارع أبو العلاء ،وخلفه ساحة العبّاسيّين ،وبقربه جادة الشّرف الأعلى ،هنا في دمشق للصحافي الشّهيد الأوّل شارع ،وللقيادات المقاومة البطلة ساحات :سلطان باسا الأطرش ، يوسف العظمة، التّغلبي ،علي الأرمنازي، وشارع باسم بغداد ،وملعب لذكرى جلاء الفرنسيّين ، أما بيروتنا ،فتنام في بعض شوارعها على أسماء ضبّاط استعمارها الفرنسي :شارع غورو في الجمّيزة ،وشارع سبيرز قرب الصنائع ،وشارع كاترو ،وشارع كليمانصو في قلب رأس بيروت ،وتمضي غديّ ساخرة قائلة :ينقصنا شارع بلفور ، أو سايكس بيكو ،لتكتمل خريطة المُحْتَل فوق أسماء شوارعنا !

القارئ العادي يظنّ أن الكاتبة قد تكون متشائمة ، أو متشائلة /على طريقة إميل حبيبي ، أو متفائلة ،نرجسيّة ،زهراويّة ،سوداوية ،تتغيّر الصورة بين برهة وأخرى طبقاً للوجوه ،المعالّم ، المظاهر والأحداث التي ترقبها عن كثب ،إنّها تجمع كلّ هؤلاء مهما اختلفوا وتعدّدت مشاربهم وانتماءاتهم العشائرية ، القبليّة، المذهبيّة ،الدّينيّة ، الإقليميّة أو الحزبيّة العقائديّة ،تطوف في مدينَتَي السّويدا ودرعا الجارتين :ص119 ،قمح حوراني واحد في محافظتي جبل الدروز النائم فوق درعا ،يقول أحدهم : حابب شوف السّويدا ،بيقولوا هواها دوا ! ...كأنّ البيوت نبتت من الأرض...تعيدنا الى سحر أرض شهبا ووجوه أهلها ،لباسهم لباس الأرض ،أصابعهم مطبوعة بلون ترابها ،سُمرة جباههم من شمسها، سواء أكان خرّيج إعلام أم شيخ عقل ، ابن السويدا شيخ عقل يعمل في زراعة الحقل...عبر الرئيس الأسد مع عائلته صباحاً في شهبا ، أوقف سيارته في زيارة مفاجئة ،نزل يُسلّم على الأهل ،حملوه وحضنوه ،عانقوه وصوّروه ،زغردوا له ،دخل عليهم ،جلس معهم ،أكل من أكلهم وشرب شايهم ،من دون فوج مرافقة وموافقة وأمن دون أن يستحضر التّهليل والتّأييد، كان مشهد ابن ثريّ بين أهل فقراء ...إنّ توقيت الزيارة كان قبل شرارة درعا بأسبوع ،زيارة تصلح نموذجاً من محبّة أهل الجبل لرئيسهم ،رغم معاناتهم ،كما تُعبّر عن ثقته بهم وارتياحه لهم ...

وتضيف الكاتبة :هناك حسّاسيّة بين محافظتَي السويدا ودرعا ، أهالي السويدا وطنيّون وأهالي درعا مُتقوقعون /يُسمّون أنفسهم إمارة درعا ،السويدا مع الرئيس حتى العظم ،شيخ العقل يقول :حوران واحدة بسهلها درعا/وجبلها السويدا، ونحن مع الرئيس ضد المؤامرة ،أنا السويدا جبل الكرم والكرامة ، أنا الثورة السّورية الكبرى وسلطان باشا ، الشّيخ حمّود يحيى الحنّاوي ،حزّمت أظافره صبغة التراب البركاني الأسود من كثرة التقائه بالأرض ،كأنّه حجر آخر من حجارها ، أو شجرة من أشجارها ،هذه المحافظة ضَحّتْ بأكثر من خمسة آلاف شهيد من أجل الاستقلال، جبلتْ ترابه بالدّم ، لن تُفرط بذرّة تراب من ترابه ،ويضيف الشّيخ :نحن إسلاميّو الانتماء ،توحيديّو المذهب ،سوريّو الوطن ،عُروبيّو الأصل ، إنسانيّو النّزعة ، لا نفتي بالقتل إلاّ بِحقّ، لا نسفك الدّماء إلاّمن أجل الوطن !شابّ مثقّف يقول :إسقاط النّظام لا يعني حكماً إسقاط بشّار ، فالنّظام هو أجهزة الأمن .

تصل الكاتبة الى حماة ،لطالما تغنّت صباح :حموي يا مشمش ، بلدي يا مشمش ، بعيد وحدتنا....فتقول غديّ ص 137 :في حماة أغلبيّة سُنّيّة وأقلّيّة مسيحيّة ،لكثرة التّشدّد ،وحتى المسيحيّات يُغطّين رؤوسهنّ أحياناً ، لكن الحموي عموماً يشتهر بحبّه لمشروب العرق ،وقد تجد رجلاً وزوجته مُنقّبة ،يلتزم بِأداء واجباته الدّينيّة ،وفي الوقت ذاته ،قد لا يتردّد في احتساء كأس من العرق مع الأصدقاء ،سِرّاً، وهذه ليست مبالغة، كما تقول غدي ،ثم تشير الى شخصيّات سوريّة حمويّة بارزة مثل :أكرم الحوراني ، أديب الشيشكلي ،الوزير خليل كلاّس /في عهد الوحدة بين مصر وسوريا ، مصطفى حمدون الذي انقلب على أديب الشيشكلي ،فيصل الركبي والكاتب محمد الماغوط ،ثم تنقلنا الكاتبة الى أجواء المدينتين الكبيرتين دمشق بملايينها السّبعة وحلب بملايينها السّتّة ،وهما معاً تشكّلان أكثر من نصف مواطني سوري عامّة ،وإذا تغنّى العديد من الشّعراء بأمجاد دمشق الشّام ،فَلِحلب أمجادها ،مكانتها واقتصادها ،ويكفيها مُتَنَبّيها القائل ص143 :

كلّما رحّبتْ بنا الرّوض قلنا حلب قصدنا وأنتِ السّبيل
فيكِ مرعى جيادنا والمطايا وإليها وَجيفنا والذّميل
*الوجيف :الفرس السّريع ،الذّميل البعير ليّن السّير

تقول غديّ ص273 :طفح الكيل من نشاطي ومقالاتي /الوقحة/،من دون إذن وزارة الإعلام ،كتاب من الأمن السّوري الحدودي :مطرودة وممنوعة من الدّخول لأسباب أمنيّة ...خَفّفي عنّا شوي !رافقني المُقدّم لغرفتي حزمتُ أمتعتي وأوراقي بإشرافه ،مع احترام وهدوء ومعاملة حسنة ،غنّيْتُ في سيّارة الأمن وبكيت وضحكت :يا مال الشّام...

الكتاب جذّاب ،مُثير للاهتمام ،به الكثير من التّناقضات السّوريّة مع وضدّ، سلب وإيجاب ،رحلة مُضنية ،صعبة ،محفوفة بالمخاطر والمجازفات ،أسلوب سَلِس ،لغة رقيقة دقيقة عذبة ،على لسان فتاة يافعة ،لم تبلغ الخامسة والعشرين من عمرها ،نرجو لها المزيد من العطاء ،الشّجاعة والإقدام، ونبقى مع سوريا الدّولة المُستقلّة ،الوطن ،القوميّة ،الشّموخ ،الإباء ،الممانعة ،العصيّة على كلّ الغُزاة الطّامعين من أعراب وأغراب ،حتى تُضمّد جراحها وتستعيد عافيتها واقتصادها ،ويعود مُشرّدوها جميعاً الى وطنهم المعطاء ،لتكمل غدي أغنيتها مع الفنّان صباح فخري :
يا مال الشّام يالله يا مالي طال المطال يا حلوة تعالي
يا مال الشّام على بالي هواكي أحلى زمان قضيتو معاكي
ونحن معها حتى يزول ألمها ألمنا ويدوم قلمها وأملنا، وإنّ غداً لناظره قريب.

الكاتبة المغامرة غديّ فرنسيس

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]