ترددت كثيرا قبل أن أكتب هذا العنوان "الفج" !! مسحته أكثر من مرة وأعدت كتابته , لكن في كل مرة أراجع قراءة المقال يقفز العنوان الى ذهني ويجرني اليه جرا !!
هذا العنوان داهمني بينما كنت أحضر اجتماعا لبعض القوى السياسية .كنت استمع اليها وهي تناقش لأكثر من ثلاث ساعات , بدت انها عقيمة , تائهة, لا طعم لها ولا لون .
ليست المرة الاولى التي اجلس فيها واخرج بهذا الانطباع المعكر للمزاج . سبق أن شاركت في حوارات , سواء ثنائية بين فتح وحماس او حوارات "وطنية " تجمع الكل ..وحضرت العشرات من المؤتمرات والندوات وحلقات "العصف الفكري " , لكن هذه المرة طغي علي حزن عميق , وبدأت المشاعر تجتاحني : ماذا يقول هؤلاء ؟ ماذا يصنعون .؟ أي وقت يضيعون ؟؟ ,في أي عالم يعيشون ؟ فجأة قفز الى خاطري بدون استئذان : الان فهمت لماذا ضاعت فلسطين ؟
كان خاطرا مرعبا ومخيفا . لم يعد لدي ادنى شك بان مثل هذه الجلسات/ النقاشات العقيمة تكررت الاف المرات , لا شيء سوى مضغ الكلام واجترار الماضي والهروب من مواجهة الحقائق .
استرجعت في ذهني الكثير من اللقاءات والاتفاقات والتفاهمات التي وقعت منذ العام 1993 وحتى اتفاق الشاطئ 2014 ..مرت في لحظة وتلاشت .
بدا لي أننا أضعنا عشرات السنين في مماحكات وخلافات واختلاف على النصوص لم توصلنا الا الى مزيد من الاحتقان والحلول المجزأة الفاشلة . ولان الامور بمآلاتها , انظر أين وصلنا في العملية السياسية بعد عشرين عاما من الفشل والبحث عن منجزات ورقية , وانظر الى وضع السلطة من حيث ضعفها وهزالها , وانظر الى الانقسام السياسي والمجتمعي وكم احتدت بيننا الخلافات حتى صارت تقليدا لا غنى عنه ؟
أي مصيبة صنعها الفلسطينيون بأنفسهم ولأنفسهم !!
كنا دوما نحمل الانظمة العربية مسئولية ضياع فلسطين , وهو امر لا جدال فيه , وكنا ايضا نحمل الانظمة الغربية على تواطؤها ودعمها اللامحدود لإسرائيل .. لكن ماذا عن نصيبنا في تحمل المسئولية ؟
صحيح أننا – كفلسطينيين – قاتلتا وجاهدنا وقدمنا نموذجا عظيما في التضحية وصنعنا ثورة بعد ثورة , وانتفاضة بعد انتفاضة , وطرقنا ابواب الدول وجبنا العواصم بحثا عن التأييد , وصفق لنا الكثيرون في المحافل الدولية , وحصلنا على اعترافات "نظرية " بالدولة ..لكن أين النتيجة العملية على ارض الواقع ؟ أين هو التمدد الفلسطيني – بعد 65 عاما - مقابل السرطان الاحتلالي ؟ أين هي مقومات النصر وحقائق التحرر التي ننثرها في فضاء الشعارات ؟؟ أين هو مكمن الخلل بعد هذه "الجبال " من التضحيات وهذه المساحات الكبرى من الجهد السياسي ؟؟
الغريب انه بعد حرب ضروس امتدت خمسين يوما (وهي مثار فخر للصمود والبطولة) لم تكن مطالبنا تنم الا عن غياب الافق السياسي والاستراتيجي : فتح معابر وتوسيع مساحة الصيد البحري !!
الغريب أن الكل يعتقد أنه قريب من تحقيق الهدف : (فتح) تظن انها قاب قوسين أو أدنى من الدولة , و(حماس) تعتقد أنه ليس بينها وبين وتحرير فلسطين الا شراك النعل !! .
بدل ان نحصل الدولة(الوطن) كحق تاريخي أصبحنا نتوخاه في قرار اممي غير قابل للتطبيق !!
لا يمكن لفلسطين ان تحرر أو تبنى بهذه الطريقة العفوية المنقوصة البعيدة عن التخطيط العميق والتحضير القوى والعمل الوطني المشترك والممتد والمتراكم. انها تتحول الى مجرد أمنيات لا أكثر . هذا لا يعني أنني اقلل من قيمة ما يقوم به كل طرف لكن تشتت الاتجاهات وتفرق الجهود سيوصلنا الى نتائج عكسية .
لماذا وكيف ضاعت جهودنا ؟
باختصار لان الفلسطينيين فقدوا ركنين من أركان الوطن : الرؤية الاستراتيجية والاجماع الوطني . ومن ثم تفرقت بهم السبل . تنقلوا – أو قل تشتتوا- بين مربعات متناقضة استنزفت طاقاتهم وبددت قدراتهم .. تنقلوا بين الحل الانتقالي والنهائي .. بين السلطة والمقاومة .. بين السلطة والمنظمة .. بين مشروع الدولة ومشروع التحرر .. بين الاستراتيجية والتكتيك .. بين الشرعية واللاشرعية , تاهوا بين المصالحة والانقسام....
هذه المعضلة فاقمت من خلافات الفلسطينيين حتى صاروا نموذجا في احتراف وصناعة الخلاف .فتجدنا نختلف على كل شيء , من مشروع التحرير / الدولة وحتى جرة الغاز !! وهذه جرجرتنا الى الغرق في التفاصيل الصغيرة التي أرهقتنا وحجبت عنا التفكير في القضايا الاستراتيجية .
ان غياب الرؤية الاستراتيجية كارثة وطنية يتحمل مسئوليتها الجميع.
الرئيس أبو مازن يهرول بين العواصم بحثا عن تواقيع لدولة (لا توجد على الارض ) , فيما الفصائل تنظر وتترقب من بعيد , بلا مشاركة , وكأنه مصير يصنع من خلف ظهورهم .
(فتح )تسير في ركاب المفاوضات السياسية وكأنها قدر محتوم لا فكاك منه , و(حماس) تتشبث بالمقاومة ولا ترى غيرها . لا (حماس) تنتفع بقوة (فتح) السياسية , ولا (فتح) تنتفع بقوة (حماس) العسكرية المقاومة .. النتيجة : كيف ينتفع الوطن من خياريهما اذا كانت اليد الواحدة لا تصفق؟؟
حماس تصفق- بيد واحدة- في مهرجاناتها وتتغنى ببطولاتها وتسمع لذاتها وتنعت الاخر بالسقوط والتنازل , وفتح تصفق – بيد واحدة- في مجالسها المركزية والثورية وتتلقى تقارير مجللة بالسواد عن حماس وصنائعها !!
هل حماس تريد فتح ضعيفة موزعة على تيارات .. وهل تريد فتح حماس معزولة خارج نطاق التردد السياسي ؟ معادلة مجبولة على الفشل والمراهقة السياسية .
بدل أن يتمركز الصراع ضد الاحتلال , تحول الى أن يصبح فلسطينيا بامتياز , صراع الخيارات , الذي يراد له ان يبرز من هو الاقدر على الاثبات أن خياره هو الافضل وأن خيار الاخر هو الفاشل ؟ كم استغرقت منا هذه المعركة كل هذه السنوات دون أن نحسم من المنتصر في خياراته ؟ وهل مطلوب منا أن نفعل ذلك ؟.
الاحتلال استفاد كثيرا من هذه المنازعات, وحارب كل طرف بما يناسبه . حارب فتح وسلطتها بالمماطلة والخداع وتضييق الخناق عليها وتحويلها الى سلطة وظيفية , وحارب حماس بعزلها في غزة واشغالها بالإعمار والحصار, فأصبح لكل طرف "وجهته " الخاصة وحساباته في الصراع .
اليوم وصلنا الى مواجهة الحقائق المرة !! كل شيء متوقف ومعلق/فاشل : مفاوضات , مصالحة , حكومة , وشعب محتار محبط .
الحل السحري : حكومة وحدة !!!
لم نعد نرى شيئا ناجحا ولا قابلا للتطور والنجاح اللهم الا الجلد والتحطيم. حتى الحكومة (الوليدة) التي لم يمض على تشكيلها أشهر معدودة , سلخنا جلدها (ولعنا أبوها ) ونحن نقول انها فاشلة وعاجزة . " طيب, اعطوني حكومة واحدة رضي عنها الشعب الفلسطيني منذ العام 94 !!
جربنا حكومة فتح فلصق بها الفساد والترهل الامني والاداري , وجاءت حكومة الوحدة الوطنية فلم تلبث أن أعدمت بعد شهرين , ثم حكومة حماس التي لازمتها الحروب والحصار .. ثم جئنا بحكومة الوفاق (بعد سبع سنوات من الجدل والحوار ) فقلنا عنها هزيلة وعاجزة .. قلنا نهرب الى الامام , واكتشفنا اكسير الحياة السحري " هلموا بنا يا قوم الى حكومة وحدة وطنية فهى المنقذ "!! .. حتى لو شكلوا حكومة وحدة وطنية فهل ستكون "سوبرمان " تتفكك على يديها كل العقد ؟
ان المصيبة أكبر من قصة حكومة لأنها تضرب في أعصاب الوطن الممزق .
اننا – كعادتنا - نهرب من فشل الى فشل أقسى !!
ثم التفتنا الى عملية الاعمار – مع تقديري لكل الانتقادات لها - وبدأنا في سن السكاكين , واصبح الكل يتبارى في ابراز مواهبه "الكلامية " البليغة , وتسللت الينا عقلية المؤامرة وبدأنا في لعنها طعنها والارجاف بها دون علم ودون طرح بديل عملي.
في كثير من الاحيان نتحول الى عدميين: نلعن كل شيء .. نرفض كل شيء ..نتشكك في كل شيء . لا احد يطرح بديلا واقعيا ولا تغييرا ايجابيا شموليا . ليست الا لغة الرفض والشك التي تتلبسنا حتى في أدق تفاصيل حياتنا . لهذا نحن نفشل ونعيد استنساخ الفشل (نتلذذ بالألم والمظلومية ) , نقولبه في أشكال والوان اخرى . نعود فنشكو ونتذمر ... ثم نشكو ونتذمر , ثم نرقع فشلنا بفشل أكبر .. ثم نعود فنشكو ونتذمر !!
المرهق ان كرة (الفشل ) تتدحرج كل يوم من مربع لآخر !!
من يفشل يجد من يتربص به .. يفرح ويتشمت به , لا احد يمد له يد المساعدة لإنقاذه, لا احد يترفق به , لا احد يقدم له العون والنصيحة ,لذا يستمر في فشله أكثر فأكثر
لهذا – بعد 6 عقود - ضاعت فلسطين وتوزع دمها بين القبائل/الفصائل !!
واعذروني ان جاء فهمي متأخرا !!
[email protected]
أضف تعليق