بالتعريف فهو أول رئيس منتخب منذ الاستقلال وبالواقع فإنه رئيس انتقالى جديد.
بقدر ما هو معروف فإنه لم يحدث فى التاريخ الإنسانى أن تولى أحد السلطة العليا فى بلاده وهو على مشارف التسعين.
ظاهرته تستحق الدراسة بعمق والتأمل بتمهل، فقد نجح فى غضون عامين أن يؤسس لحزب جديد حسم على التوالى الانتخابات التشريعية والرئاسية.
المعنى أن هناك فراغا سياسيا أخفقت فى ملئه القوى الجديدة التى اتيحت أمامها فرصة التقدم ببرامجها إلى الرأى العام دون قيود لمدة أربع سنوات بعد الثورة.
الأحزاب القومية واليسارية حاولت بقدر ظروفها أن تملأ الفراغ والاغتيالات السياسية لاحقت بعض رموزها.. واجهت فى الشارع بشجاعة لتأكيد مدنية الدولة ومنع النكوص إلى ما قبل القرن التاسع عشر ونجحت فى زعزعة حكم حركة «النهضة» الإسلامية وإجبارها على تنازلات جوهرية غير أنها لم تتمكن بصورة كبيرة أن تقنع مجتمعا استبد به قلقه بقدرتها على حسم الصراع على المستقبل.
الخشية من تغول التيار الإسلامى اكتسحت فى طريقها أية اعتبارات أخرى وبعض هذا التيار حمل سلاحه فى وجه مجتمعه وحاول تقويض أسلوب حياة استقر دون أن يكون لديه ما يقدمه سوى خطاب التكفير والتمركز فى الجبال.
ظاهرة «الباجى قايد السبسى» صعدت بقوة القلق العام فى مجتمع يبحث عن ما يطمئنه.
تاريخه كـ«رجل دولة عتيد زكاه كوثيقة اطمئنان»، فقد اسند إليه «الحبيب بورقيبة» مهاما استشارية قبل أن يتولى ثلاث حقائب سيادية على التوالى: الداخلية والدفاع والخارجية.
ارتبط بـ«بورقيبة» منذ أن كان محاميا شابا غير أن المسافات اتسعت وضاقت من مرحلة لأخرى، تماهى واختلف، صعد وانشق، لكن اسمه بقى فى النهاية مقرونا بقائد الاستقلال.
من ناحية تاريخية يصعب أن يحسب على «زين العابدين بن على»، فالأخير كان ضابطا شبه مجهولا بينما كان هو على رأس المؤسسة.
«السبسى» رجل سياسة فى الحساب النهائى و«بن على» رجل أمن قبل أى شىء آخر.
الأول صعد فى سلم السلطة بمواهبه وقدراته، لم يكن رجلا مثاليا على أى نحو لكن شخصيته بدت مستقلة إلى حد كبير، خرج من حزب السلطة «الاشتراكى الدستورى» بزعامة «بورقيبة» قبل أن ينضم إلى «حركة الاشتراكيين الديمقراطيين» برئاسة «أحمد المستيرى»، تأثر بأطروحات «أحمد بن صالح» الإصلاحية فى مرحلة واقترب فى أخرى من نهج الانفتاح السياسى عند رئيس الوزراء الأسبق «محمد مزالى» الذى كان ينظر إليه فى نهايات عهد «بورقيبة» كخليفة شبه مؤكد.
والثانى صعد إلى الرئاسة بلا مقدمات طويلة، فقد استدعاه «بورقيبة» إلى وزارة الداخلية لقمع أية احتجاجات محتملة استنادا إلى خبرته فى قمع احتجاجات سابقة «فى نصف نهار» على ما قال الرئيس نفسه بحسب روايات تونسية شائعة.
بمؤامرة فى قصر «قرطاج» قادتها حرم الرئيس «الوسيلة بورقيبة» أطيح بـ«مزالى» وجىء بـ«بن على» الذى لم يتردد خلال فترة قصيرة للغاية فى إطاحة الرئيس العجوز.
لم يكن سرا أن قائد الانقلاب عميل للاستخبارات الأمريكية، تزوج بابنة أحد قادته العسكريين الذى دفعه للأمام، غير أنه غدر بها عندما أصبح رئيسا وتزوج من سيدة أخرى «ليلى بن علي» فى قصة مثيرة تتعدد رواياتها وقد أدى توحش نفوذ عائلتها وما تورطت فيه من فساد إلى تفويض حكمه فى النهاية.
تعاونا معا لعام واحد تولى خلاله «السبسى» رئاسة مجلس النواب فى السنوات الأولى من حكم «بن على»، انزوى تقريبا قبل أن يعود بقوة للسلطة بعد الثورة
كرئيس للحكومة
رغم ما ينسب لـ«السبسى» من انتقادات حادة تشكك فى تاريخه ومواقفه، إلا أنه نجح فى بناء «صورة الأب» القادر بخبرته الطويلة على تبعات سياسية صعبة واقتصادية فادحة وحرب مع الإرهاب قد تتصاعد وتيرتها.
الاختبارات تسابق الاحتفالات والتحديات تضع الرئيس الجديد أمام حساب لا يرحم.
باليقين فهو لا يمثل الثورة لكنه عمل بقدر طاقته على تجنب أية صدامات معها ولم يصفها بأنها مؤامرة عملت على تخريب تونس.
ورغم أن حزبه «نداء تونس» يضم وجوها عملت مع «بن على» إلا أنه لم يكن هناك تلعثم كبير فى خطاب القطيعة بغض النظر عن حقيقته.
قبل أن يدخل قصر قرطاج تنتظره ثلاث أزمات مبكرة.
الأولى، عزوف الشباب عن الإقبال على التصويت فى الانتخابات الرئاسية وقبلها التشريعية.
الأجيال الشابة تخاصم الآليات الديمقراطية ولا تثق فيما تسفر عنه وترى فى صعود «السبسى» هزيمة لما راهنت عليه من تغيير فى السياسات والوجوه وطى صفحة الماضى بالكامل.
شىء من الجفوة بين الانتخابات وإجراءاتها والأجيال الجديدة ورهاناتها.
هذه أزمة لا يمكن تجاهلها بأية حسابات تنظر إلى أبعد مما تقف الأقدام.
تحديه الرئيسى أن يتصرف، وهو منتخب، كرئيس انتقالى يهيئ تونس لعصر جديد.
وهو تحد ملغم.
والثانية، موازين القوى بين الأطراف المتصارعة وسيناريوهات المستقبل السياسى.
كل شىء يتوقف على الطريقة التى يتصرف بها، من يتحالف معهم فى التشكيل الحكومى، ما تبعات دمج «النهضة» فى الحكم وما التبعات الأخرى لاستبعادها؟.
لكل خيار حساباته المعقدة، وقد بدأت المواجهات مبكرا باضطرابات فى الجنوب.
لم تكن الاضطرابات احتجاجا على إعلان حسم «السبسى» للانتخابات الرئاسية قبل إعلانها رسميا، فالنتائج كانت معروفة، بقدر ما كانت اختبارا مبكرا ومحدودا للقوة.
ولم تكن اعتقادا فى جدارة منافسه الرئيس الانتقالى «المنصف المرزوقى» بالمنصب، فإخفاقه كان فادحا، بقدر ما كانت عنوانا على حضور حركة «النهضة» وأنه لا يمكن تجنب التفاهم معها بلا أثمان باهظة.
وهو تحد آخر ملغم.
والثالثة، الحسابات والصراعات الإقليمية المتغيرة.
فى صعوده هزيمة سياسية موجعة لجماعة الإخوان المسلمين، ورغم أن زعيم «النهضة» الشيخ «راشد الغنوشى» أبدى مهارة سياسية فى التعاطى مع الأزمة التونسية افتقدتها بقسوة الجماعة الأم فى مصر إلا أن احتمالات الصدام لا يمكن استبعادها.
اللافت هنا أن الرجلين «السبسى» و«الغنوشى» يتمتعان بدرجة عالية من البراجماتية السياسية وكل شىء سوف يتوقف على حقائق القوة فى المنطقة.
اقتراب الدوحة من القاهرة برعاية الرياض عامل مؤثر للغاية فى حسابات «الغنوشى» الذى يتمتع بعلاقات قطرية وثيقة.
الاقتراب يحكم الخناق على الجماعة الأم ويخفض درجة اندفاع «النهضة» للصدام مع الحكم الجديد فى تونس.
بالحسابات المغاربية الجزائر أولا، وقد تنتظر الأطراف التونسية المتصارعة بعض الوقت لاستجلاء ما قد يجرى فى الجزائر بعد رئيسها المريض «عبدالعزيز بوتفليقة».
وبالنسبة لمصر والجزائر معا فإن الاختبار الرئيسى للقادم الجديد عنوانه الملف الليبى.
ورغم أن البلدين لا يتفقان على اختيار واحد فى الاقتراب من هذا الملف إلا أن إزاحة حكم «النهضة» يفتح مجالا واسعا أمامهما للتحرك بقوة للأمام.
عند الاختبار الليبى يتحدد المدى الذى يمكن أن تذهب إليه دول الخليج الرئيسية فى دعم الاقتصاد التونسى.
الحسابات الإقليمية قد تدفع تونس إلى أدوار لم تعهدها رئاساتها السابقة والسؤال الرئيسى هنا: إلى أى حد وبأية وسائل؟
وهو تحد ثالث ملغم.
ما بين الألغام يمضى رجل على مشارف التسعين إلى آخر معاركه.
[email protected]
أضف تعليق