حقيقة مؤكدة هي أن خوض الانتخابات في قائمة واحدة مطلب شعبي قديم أو على الأقل مطلب غالبية الجمهور والأطر التي لا تقاطع الانتخابات من منطلق مبدئي. وقد ازدادت مؤخراً الرغبة العامة إلحاحاً. والحقيقة المؤكدة أيضاً أن خوض الانتخابات بقائمتين سيؤدي إلى هبوط نسبة التصويت عما كانت عليه في الانتخابات السابقة، أي إلى عزوف من الناس عن التصويت وعن السياسة.

هذا ما يسمعه من الناس يوميا و يستنتجه كل من له علاقة بالعمل السياسي-الجماهيري. وهذا أيضاً ما تزكيه استطلاعات الرأي القديمة والجديدة.. آخرها استطلاع مركز "مدى الكرمل" الذي أشار إلى تأييد 89% من المواطنين العرب للقائمة الواحدة. التأييد الشعبي، لهذه الفكرة قديم، أي قبل رفع نسبة الحسم، التي اضطرت من كان يعارض مبدئياً، أو يتحفظ من الفكرة إلى التعامل معها بجدية لأول مرة نحو قبولها والعمل على إنجاحها. وهذا هو الأمر الجديد والهام.

فالظروف الكارثية التي يعيشها العالم العربي والشعب الفلسطيني، تقتضي توفير كل ما نستطيع لتحصين هذا الجزء من شعبنا، وتمكينه من الثبات والصمود، والتطور. لا أرى وجود وفاعلية هذا الجزء من شعبنا إلا جزءاً عضوياً من نضال عموم الشعب الفلسطيني والأمة العربية لتحقيق الحرية والأمن والبناء. إن للشعوب خيارات كفاحية عديدة، وهي تختار منها ما يلائم خصوصية موقعها وظروف كفاحها.

الأمر الجديد

الجديد في الأمر أن الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، المعارضة تاريخياً وأيديولوجياً للفكرة، تعيش نقاشاً داخلياً هاماً على هذا الصعيد وهي تتجه نحو تحول مؤكد في الموقف وهو نقاش لا تُعاب عليه بل تُحمد عليه. إن هذا النقاش الداخلي لا يفيد الجبهة كإطار سياسي فحسب، بل أيضاً يفيد المصلحة العامة لهذا الجزء من شعبنا ويصبُّ في إغناء وإثراء التجربة السياسية لعرب الداخل. وهو بطبيعة الحال أحد أهدافها المعلنة، وأهداف كل الأحزاب والحركات السياسية الفاعلة على ساحة عرب الداخل باستثناء الأشخاص المنشغلين بضمان مقعد لهم. هذا النقاش والتحول هما حصيلة تحولات سياسية وفكرية هامة يمُرّ فيها فلسطينيو الداخل ونخبهم منذ عقدين من الزمن.

هذا التحول يجب أن يُنظر إليه بإيجابية، وبإيجابية كبيرة ليس فقط من جانب عامة الناس، بل حتى من الأخوة الذين يقاطعون الانتخابات، باعتبار أن هذا التقارب الحاصل في المفاهيم، وبالتحديد في مسألة التلاقي بين القوائم الثلاث على أرضية ذات ملامح قومية (ولنطمئن البعض: نقصد قومية ببعد ديمقراطي متمثلاً بوجود يهودي في القائمة وبتوجه جديد من قوائم أخرى لتطوير العمل العربي- اليهودي المشترك).

وبكلمات أخرى، أقول إن هناك خطوات متبادلة، خطوة من جانب الجبهة باتجاه قبول القائمة المشتركة (الديمقراطية) وخطوة من جانب القوى القومية والإسلامية باتجاه تكريس التوجه الديمقراطي، وترجمة ذلك عملياً. ويذكر أن حواراً مشتركاً دار بين التجمع والحركة الإسلامية الجنوبية عشية دورتي الانتخابات السابقة، حول ضرورة أن يكون يهودي مناهض للاحتلال والعنصرية بين المرشحين في القائمة الواحدة. وهنا يحضرني، أنه حتى الحركة الإسلامية الشمالية، رأيناها تدعو يهوداً مناهضين للصهيونية يتحدثون على منصاتهم (عند عودة الشيخ رائد من بريطانيا). وبالتالي لا يعقل أن تبدي حركات إسلامية في الداخل مرونة تجاه مسألة كانت تستبعدها في السابق لأسباب نفعية وأيدلوجية، في حين تبقى أطر علمانية على موقفها التقليدي وأقل انفتاحاً على قضايا، كالقومية والدين.. خاصة وأننا نعيش في واقع اضطهادي قومي.. ونظام كولونيالي.

إن النقاش الجاري داخل أوساط الجبهة قد يسمح بخوض نقاش حقيقي ولأول مرة بين القوى السياسية العربية حول علاقة القومي بالديمقراطي، ليس بصورة عامة فحسب، بل أيضاً فيما يتصل بالمجتمع الإسرائيلي. وهذه المسألة كانت وربما ما زالت من القضايا الخلافية، أي في النظرة إلى موقع العرب وأحزابهم الوطنية في معادلة العمل العربي- اليهودي المشترك.

الحركة الإسلامية الجنوبية، حركة سياسية دينية معتدلة، تشارك في اللعبة البرلمانية-السياسية منذ أواسط التسعينيات، لكن دون أن تقدم برنامجاً محدداً، أو تنشغل في كيفية تطوير العلاقة مع الأوساط المناهضة للاحتلال والعنصرية. والنقاش معها مستمر، وضروري. وهي أيضاً (كما نحن) من المفترض أن نستفيد من هذا النقاش والحوار لهدف تطوير كيفية التأثير على المجتمع الإسرائيلي، والمساهمة في تعميق التناقضات داخل هذا المجتمع الكولونيالي واستقطاب الأوساط المتنورة والمناهضة للاحتلال والعنصرية في المعركة. وهي الحركة التي تجاوزت مسألة قبول يهودي إسرائيلي مناهض للاحتلال والعنصرية في القائمة، وأظهرت أن هذه الحركة، رغم توجهها الديني، فهي تتمتع بالمرونة والبراغماتية وإن كنا نختلف معها وتختلف معنا في مقاربة قضايا سياسية وفكرية.

التجمع الوطني الديمقراطي حزب وطني ديمقراطي طرح دولة المواطنين والحكم الذاتي الثقافي كطريقة لمواجهة وتحدي بنية الدولة العبرية، باعتبارها بنية كولونيالية وعنصرية، (عبر المطالبة بإلغاء يهودية الدولة)، وكطريقة لتنظيم وتقوية المجتمع العربي الفلسطيني داخل الخط الأخضر (من خلال الحكم الذاتي الثقافي). وطرح أيضاً تصوره لحل قضية فلسطين، وتصوره للحل النهائي.

وإن طرح دولة المواطنين يشمل اليهود الإسرائيليين الذين من المفروض، ولو نظرياً، أن يتحولوا إلى متساوين مع المواطنين العرب وليس أسيادا عليهم، في إطار كيان سياسي ثنائي القومية، أو دولة ديمقراطية واحدة، وذلك بعد التفكيك التدريجي للبنية العنصرية القائمة.
وفي هذا يختلف التجمع عن الجبهة، والجبهة تختلف عن التجمع، ليس في المبدأ، أي مبدأ التعايش مع المجتمع الإسرائيلي القائم على أنقاض الكولونيالية والعنصرية، ولكن في المقاربة لمفاهيم وأُسس التعايش، وكذلك في شكل ومضمون الهدف النهائي لحل الصراع. وكما هو معروف فإن الجدل حول طبيعة العمل العربي- اليهودي المشترك ليس قائماً بين الحركات السياسية والجبهة، بل أيضاً داخل الحزب الشيوعي والجبهة، وهو جدل يعلو ويتراجع. وإذا كان للتجمع أن يراجع نفسه، فإنه أيضاً لم يبذل الجهد الكافي بهذا الاتجاه، مع أن له عشرات الشخصيات اليهودية المثقفة الصديقة المناهضة للصهيونية، والمؤيدة لقائمة عربية واحدة. ولفكرة تنظيم المجتمع العربي.

هذا الأمر يجب أن يهّم كل الأحزاب والحركات. وشعبنا سيحكم على القائمة المشتركة وأهميتها أولاً: من خلال أدائها المشترك في المعركة الانتخابية، ومن خلال البرنامج السياسي الرؤية الإستراتيجية التي نقدمها للناس، ومن خلال خطابها نحو المجتمع الإسرائيلي. أما بعد الانتخابات، فإن الناس ستراقب مدى السير في هذه الرؤية. لا تنتظر الناس أن تتبدل حياتهم غداة الانتخابات، فهم يدركون واقع الظلم المتراكم عبر عقود، بل ينتظرون أن تتبدل العلاقات بين الأحزاب والحركات والهيئات المختلفة وتمنحهم أملاً، ومعنى أفضل لحياتهم. وبشكل خاص، وحتى تتبلور إستراتيجية عمل وحدوية، يجب أن تبادر هذه الهيئات بعد الانتخابات للعمل عليها بذهن مفتوح لجذب كل الناس إلى المعركة السياسية والاجتماعية، أي إلى جذب طاقات شعبنا إلى الميدان وخاصة جموع الشباب الباحث عن الأمان والحياة الحرة الكريمة، ميدان المواجهة الشعبية وميدان بناء المجتمع العربي.. إلى ساحة العمل التطوعي المنتج.

رغم التأييد الشعبي الواسع لفكرة الوحدة، فإنه لا يجوز أبداً تجاهل تلك الأصوات الناقدة، سواء تلك الصادرة عن أنصار المقاطعة أو تلك الصادرة عن بعض الأصوات المعارضة في الجبهة (الحزب الشيوعي تحديداً)، لفكرة القائمة وإن كانت المنطلقات مختلفة. وأيضاً لا يجوز تجاهل تخوف العديد من الناس من تحول فكرة القائمة إلى طريقة لضمان مقاعد لأشخاص.. مع أننا نُميز بين أشخاص وأشخاص.

إحدى تخوفات المقاطعين الدائمين، وأنا شخصياً أشاركهم في ذلك، هو أن يُدير البعض ظهره بعد الانتخابات لمسألة تنظيم الجماهير العربية، ويعود جُلّ انشغالهم في العمل البرلماني أو العمل الحزبي الروتيني، وهذا أمر ليس مستبعدا، ولكني أعتقد أن الحالة الشعبية المؤيدة للوحدة، ومن يمثلها لن تسمح بحدوث ذلك. كما أن ارتفاع منسوب الاهتمام مؤخراً لدى غالبية القوى السياسية عزّز احتمالات استئناف الجهود بعد الانتخابات بقوة أكبر.

أقصد أن يولي هؤلاء الأخوة اهتماماً أكثر لديناميكية فكرة القائمة الواحدة، خاصة بعد أن أخرجت قيادة الجبهة هذه المسألة من المحظورات. ليس بطبيعة الحال لفكّ الشراكة مع القوى اليهودية الديمقراطية بل لتطوير هذه الشراكة وعلى أسس مغايرة تؤدي إلى تحصيل فوائد حقيقية، أو فوائد أكبر مما تحقق حتى الآن، وهو قليل جداً بنظر الكثيرين.. بل إن الصيغة الراهنة للعمل العربي المشترك ساهمت طيلة كل الفترة الماضية في إعاقة الاقتراب من فكرة توحيد المجتمع العربي و بناء مؤسساته التمثيلية والمهنية.

أعتقد أنه من خلال الانخراط في عمل حملة انتخابية مشتركة، أو في نقاش سياسي وفكري مفتوح نستطيع أن نصل إلى تصور أفضل لإدارة مجتمعنا الفلسطيني، وإلى آليات أكثر قوة وتأثيراً في المجتمع الإسرائيلي. مع أن التغيير الحقيقي والحاسم سيتم من خلال ضغط نضالي شعبي في الداخل (في فلسطين كلها)، وضغط وحصار عالمي. وهذا ما توصلت إليه أيضاً شخصيات يهودية إسرائيلية والمنخرطة في حركة المقاطعة العالمية. نحن فلسطينيي الداخل لدينا الإمكانية الكبيرة للمساهمة في الحملة العالمية ضد إسرائيل، لإسناد نضالنا ونضال عموم شعبنا ضد الاستعمار والعنصرية.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]