كنت على وشك مغادرة غرفتي متّجهًا إلى غرفته، كي أصطحبه ونذهب معًا برفقة مضيفينا من "حركة الضمير المغربية"، للقاء عشاء، سيكون عشاءنا الأخير في "مرّاكش"، التي زاحم حبنا لها المطرُ، ورنّخ شوارعها طيلة أيّام، فصارت إلى شقيقاتها الأندلسيات أقرب.
أمام غرفتي وقفت امرأة متوسّطة العمر، سمرتها أقرب إلى البني الموشح بحمرة مخفية تشبه تربة سهول المدينة، على رأسها منديل أبيض بسيط، لا يغطي كل شعرها، فأطلّ كليل جبال الأطلس القريبة، وفي عينيها وسن هو بقايا حلم ما زال يسكنها، بجانبها فتاة ملتفة الأعضاء، ربما تكون ابنتها، تلبس نفس اللباس، وعيناها متّقدتان صافيتان أنزلتهما حين رأتني، فلم أتحقق من لونهما.
ألقيت عليهما التحيّة، فردّت الكبيرة بهمس وببسمة شفيفة كشفت عن شفة لمياء وعن حياء، وسألتني إن كنت بخير، واطمأنت كما فعلت كل يوم، على أهلي في فلسطين وأكّدت، مجدّدًا، أنها تحب الفلسطينيين وتصلي من أجلهم.
من بعيد سمعته ينادي بلكنته اللبنانية التي لم يقوَ عليها منفى ولا روّضتها عصا الترحال، "وينك يا خيي، ناطرك صرليشي ربع ساعة"، صوته ما زال في أول الردهة، لم أجبه، سكت، وسمعت خطواته تقترب باتجاه غرفتي. نظرت الفتاة إلى جهته، كانت وجنتها زهرية، أنفها منمنمًا وقائمًا بخشوع، يظلل فمًا بدا من هذه الزاوية كزر فل.
-"شو وينونن الجماعة ما وصلوا"، سأل بنشاط وهو يبتسم، على كتفه عوده ملقى في صندوقه، شعره مصفف إلى الوراء، يغطي الرقبة، لم أنتبه إلى بياضه، إذ بادر السيّدتين، بما يشبه الأمر، وطلب أن يتصوّر معهن. امتثلت الصغيرة برضا واضح، فهي كانت تنتظر هذه الفرصة، أمّا الكبيرة فأجابت: "إنكم على عجلة، وأنا قد تصوّرت معك قبل يومين يا أستاذ" قالت بقناعة واكتفاء وحب.
ما اسمك؟ سألها مرسيل، "مريم" قالت، أنا أريد أن أتصوّر معك يا مريم بهاتفي، فهل لديك مانع؟ رفعت مريم وجهها الذي بدا كوجه النساء في بلدي، لا صخب، وكل شيء فيه يوحي بالوداعة والسكينة. ابتسمت مريم بحياء ناي، اعتدلت واستعدت لالتقاط الصورة.
وقف مرسيل بين السيّدتين، من وجهه شعّ نور، وبصوت يشبه صوت الصمت الجميل أنشد لهما:
"يا مريم البكر فقتِ الشمسَ والقمرا** وكلَّ نجم بأفلاك السماء سرى"، كان يرنّم وخيط من رذاذ ينساب في الأبيض الكاسي ذقنه ووجنتيه. "إنها، يا مريم أجمل صورة من بين آلاف الصور التي التقٓطها من يحبونني وأحبهم، شكرًا لك، فهذه صلاتي من أجلك ومن أجل كل الكادحين الوقورين، فأنتن ملح الأرض وبركتها"، رفاقنا وصلوا، شاهدوا واستمعوا وذرفوا دمعة وجد وشجن من أجل جميع الكادحات في المغرب وأبعد.
كان نهارنا حافلًا، وناجحًا في كل المقاييس."حركة الضمير المغربية" رعت ندوة عن حرية الضمير في العالم العربي، كان المشارك الأبرز في جلساتها مرسيل خليفة، ذلك الاسم الذي كلّما نطقتَ به تذكرت شبابك وطعم العنفوان، ونمت على زند "ريتاك" وأحببتها حتى التعب.
في الطريق إلى الندوة توقف مئات المرّات، كان يفعل ذلك بصبر وتعب، يقف وتقف معه تعابير وجهه، ويتبدل المتصورون بحركة روبوتية سريعة، يحاول التقدم ويساعده على ذلك مرافقوه من الضمير وحراس. يصل القاعة بمشقة، يقرأ مداخلته، ويجزم أن لا فرح بدون حرّية ولا عدل بدونها. مرسيل- إشبين الحرية وحاديها، منذ أن رصف في السبعينيات فضاء الأمة العربية بما نضده "الدرويش" من لآلئ تشع وطنًا وحرية ونضالًا.
في الجلسة الثانية كنتُ على المنصة، ومرسيل أمامي، مقعده يتوسط كراسي الصف الأول. بعد دقائق، من بداية المداخلات، ودون أن يعرف أحد كيف جرى ذلك، صار الكرسي الذي بجانبه ككرسي المصورين. تجلس الفتاة عليه لثوان، يلتقط أحدهم لها صورة مع مرسيل المتسمر على كرسيه، ثم تتركه فيجلس آخر ويتركه وهكذا، كدلاء الساقية واحد يسلم آخر.
يمضي المتحدثون في مداخلاتهم ويتبدل العشرات على كرسي التصوير إيّاه، يفعلون ذلك بهدوء ساحر، دون أن يخلّفوا ضوضاء أو فوضى؛ جلوس، تكتكة، قيام، فجلوس فتصوير، ومرسيل يحافظ على هدوئه وصفرة وجهه، كأنه تمثال "داود" في فلورنسة أو "جولييت" في فيرونا.
تنتهي الندوة، تتدافع الجموع صوبه ومرادهم صورة يخلون اليها ويتذكرون ساعة "مر الدمشقي بأندلسي"، تركض وراءه امرأة فتقع، زوجها يستمر راكضًا، وهي على الأرض، تصرخ على الحراس، يسقط شال شاب يستمر باندفاعه نحو الهدف ولا يكترث. تزداد الأعداد وتضيق الحلقة، الحراس يدفعونه بقوة وهو أمامهم ينطلق كسهم غادر قوسه.
في السيّارة، نلتقط أنفاسنا، كمن نجوا من عاصفة. "أحبّهم كما يحبونني وأكثر، ولكن أليس بعض الحب ما قتل!" يقول، وننطلق.
بعد أن ودّعنا مريم في الفندق، وفي السيّارة، أعلنتُ أنني أغار من المغرب، ومن بلدان كثيرة أخرى، فكيف لمن طارت على أوتاره أغنيات المحمود ولمن سكنت حنجرته بدائع الدرويش لا يستطيع أن يشدو في القدس وعلى أسوارها؟
قبل أن نصل إلى عشائنا ذكّرت مرسيل بآخر محادثة هاتفية أجراها مع محمود قبل أن يغادر رام الله لإجراء عمليته. كنت أتناول طعام الغذاء مع محمود في أحد مطاعم رام الله، حين اتصل مرسيل مطمئنًا وداعيًا. كانت محادثة لطيفة لم تخلُ من دعابة اثنين جمعتهما عاصفة وناما على وعد ونبيذ. يومها، وبعد أن انتهت المحادثة رسمت في رأسي صورة لمرسيل ابن خليفة، وهو يقف في ميدان رام الله الكبير ويغني معلنًا:
"عندما يذهب الشهداء إلى النوم أصحو، أقول لهم تصبحون على وطن من سحاب ومن شجر.."
كان ذلك حلمي يا مرسيل ولم يزل، ساد صمت في المكان، وعلى وجهه علت أمنية.
بعد أن استوعبنا برد الغرفة التي اصطُحبنا إليها، أمسك مرسيل عوده وغنّى:
"يا حادي العيس سلم على أمي واحكيلها علي جرى واشكي لها همي"، كان هو يغني وصلاح يبكي كعصفور أضاع وليفه، وعبدالكريم يشهق بطرب، وكذلك فعلت كنزة ورشيدة.
أغار منك يا مغرب.
[email protected]
أضف تعليق