أرخت جسدها على السرير متثاقلة من ساعات تدعوها لمغادرة مساحات أمنيات وذاكرة، بامتداد ذراعيها تركت خلفها ليلا حافلا بالحلم، وعادت تضم امتدادها لتعانق فراغ راسخا في سكون الأمكنة. تنهض باحثة في ستائر نافذتها عن ضوء شمس خافت، يتسلل إلى محيط يومها، مرت بكفها فوق زجاج النافذة، لم تكن تجلو ندى صباحيا غافيا فوقه، لكنها أرادت أن تدعو إليها صوتا يكسر سكون يومها.
لكل يوم هويته، صوت يختلف وقعه، ويتماهى لونه في الحضور والغياب. تطالع وجهها في المرآة، غباريا هو اليوم مسكونا بروح ألم، لم تغازل وجهها اليوم. راحت تعد نفسها وكأنها تقصد مكانا ما، وقفت في باب خزانتها تطالع أثوابها، تمر عليها واحدا بعد الآخر، اختارت ثوبا زاهدا بكل زينة، هادئ اللون، انسدل على محيط خصرها، ارتده تاركة لخصلات شعرها مساحة من الحرية.
اتخذت زينتها ووقفت أما صورته، تعلق صورته على الجدار، وتحتفظ بروايته المحببة على طاولتها، منذ أبعد عن وطنه صارت كل وطنه في وطنه، وكل وطنه في منفاه. معا أحبا البلاد ورسماها مساحة لمستقبل يصوغانه أملا بضوء شمس يبدد عتمة ما، واليوم تقف وحيدة أمام صورته، وقد صار قلبها كل أمكنته. تنفسته محبة وحدثته كما لو أنها تنتظر إجابة ما:" في كل يوم أنظر إلى وجهي في المرآة وأتساءل إن كان وجهي لا زال ذاك الوجه الذي أحببته وغازلته منذ سنوات؟" تمر بأصابعها بين خصلات شعرها وتعود لتحدثه:" شعري يزداد طولا كل يوم، لم أعد أقصره فقد كنت تحبه طويلا أسود اللون، وكنت أحبك إذ تترك كل ما يشغلك، وتهتم بصناعة ضفيرة، تعانقني كلما ابتعدت." لم يفاجئها صمته فقد قرأت في عينيه ضحكة تلمع كلما رأى نفسه بين ثنايا روحها.
تركت هدوء غرفتها، وراحت تسير إلى حديقتها، تجاوزت ألوان الزرع كلها، وما أبصرت اليوم سوى تلك الشجرة التي زرعاها معا ذات مساء، كانت المرة الأولى التي يكونان فيها حبيبين بوجهتي نظر، أراد أن يسمي الشجرة عودة، وأرادت أن تسميها أمل، واليوم وهي تسقيها شيئا من الماء اقتربت منها وقالت:" ليتك تكبرين فتكونين عودة كما أرادك."
استجمعت شتات نفسها، وتجاوزت منزلها سائرة في شوارع مدينتها التي ما اعتادتها يوما وحيدة، كانا معا يرسمان لقلبيهما لغة أخرى، واليوم تسير وفيه منه الذكرى. لا تنكرها حجارة الشوارع؛ فقد خرجت وقد زينتها ذكراه، مرتديه ثوبه الذي أحب. اختاره لها في إحدى المساءات الندية التي كان قد قضياها معا، لم يعجبها لونه، باهتا رأته، ساكنا لا ضياء فيه، لكنها أحبته فقد أرسل نظراته إليه، وامسكه بيديه، وغازل هدوءه، وكان أن أحبت الثوب وذاكرته، وأحبت أن أحبها وهي تسكنه.
حيت جدران الكنيسة وظلت واقفة أمامها، تناظر ذكرياتها وذاكرتها. هنا وقفت منذ أعوام، ودعته، وقد عرفت أنه صار بعيدا عنها، ليس المكان من يبعدهما، فليس سفرا يقضيه فيعود بعده مشتاقا لها، سيذهب مبعدا منفيا، تلوح له بيدها، حريصة على تطيل مكوثها، فيتذكرها كلما عصفت به المسافات.
تجاوزت المكان، وقد حيته ثانية كما لو أنه لا زال هنا. مرت بالأسواق، ابتاعت له تذكارا واهتمت أن يحمل اللون الترابي الذي يحب، وبدت كما لو أنها تحدثه: "هذا العام ينقضي ولست معي، لن نحتفل بيوم ميلادك معا، لكني وطنك، وبي تحيا مهما ابتعدت بنا الجغرافية"
لا زالت تسير في أروقتنا، تحمل عبق حنين وأطياف محبة، وبعيدا عن روحها يسكن مكانا ما، وذاكرتها يسكن فلا مكان له في بلاده سوى ذاكرتها.
[email protected]
أضف تعليق