من القضايا الهامة التي سلطت عملية القدس الأخيرة الأضواء عليها ودفعتها الى دائرة الجدل، سؤال توحيد القدس. وأخرجته من ضبابية وظلام الادعاءات الى نور الحقيقة وشواهدها المادية الملموسة. فقد أثارت الهجمات والإجراءات الإسرائيلية التي أعقبت العملية نقاشاً واسعاً في وسائل الإعلام الإسرائيلية في شأن أوهام الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة إزاء توحيد شطري المدينة الغربي والشرقي في مدينة واحدة أطلقت عليها اسم العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل.

المحللة أرائيلا هوفمان كتبت في مقال لها بصحيفة يديعوت احرنوت " بعد 47 سنة على قرار توحيد القدس فإنها غير موحدة، وللأسف فإنها لن تكون موحدة بعد 47 سنة أُخرى" ورأت ان حل مشكلة القدس يكمن في تقسيمها وليس وحدتها.

واقع الحال يؤكد أن القدس لا تزال جغرافيا وسكانيا ومقدساتياً مقسمة الى قسمين منفصلين بدرجة كبيرة تجعل الحديث عن مدينة موحدة وعاصمة أبدية غير واقعي وغير صحيح، ومجرد كذبة أطلقتها القيادات الإسرائيلية الاحتلالية وصدقتها ومررتها على الناس بينما في الواقع المدينة كانت وستبقى مقسمة.

الحواجز والمتاريس التي أقامتها أجهزة الاحتلال الأمنية بين القدس الشرقية والغربية ورفع حالة التأهب الى الدرجة "ج" ( درجة واحدة قبل الطوارئ الحربية)، وتعزيز قوات الأمن ورفدها بقوة عسكرية من الجيش، هذه الإجراءات، التي اتخذتها بعد عملية القدس الأخيرة تعلن الاعتراف بحقيقة تقسيم المدينة وترسم الحدود الفاصلة بين جزيئها، كما ظلت قائمة منذ 47 عاما. فعلى جانبي هذه الحدود عالمان ومجتمعان منفصلان تماماً، بل ومتعاديان.

كان قرار دولة الاحتلال توحيد شطري المدينة من أول القرارات التي اتخذتها. وكان أساس القرار، يوم اتخاذه، دينياً، يقوم على المفاهيم والقناعات التوراتية بحقهم الإلهي المزعوم بكل ارض فلسطين. وللقدس في هذه المفاهيم والقناعات والحق الإلهي موقع خاص ومميز. ولا يزال نفس الأساس الديني هو الذي يحكم سياسات ومواقف دولة الاحتلال تجاه القدس وكل ارض فلسطين.

وهذا الأساس هو الذي يقدم التفسير الحقيقي لموقف دولة الاحتلال الذي يرفض المساس بـ "وحدة " القدس كعاصمة لها، ويرفض الدخول بأي مساومة او تنازلات مهما كانت طفيفة، في تكامل مع تشبثها باستمرار احتلالها ورفضها المبدئي الثابت لإنهائه، تماما كما رفضها قيام كيان فلسطيني على اي جزء من ارض فلسطين.

لقد قامت دولة الاحتلال بتوسيع مساحة القدس من 5.6 كم الى 70 كم وبنت في هذه المساحة آلاف الوحدات الاستيطانية لتستوعب موجات الاستيطان وجحافل المستوطنين الغازية، والمخطط لها لتخدم هدف تهويد القدس. ومع ذلك فان أحياء المدينة وضواحيها، سواء تلك التي كانت من الأصل جزءا منها، او تلك التي تم ضمها الى حدودها في عمليات توسيع حدود القدس الكبرى التي جرت، قد حافظت على طابعها العربي الفلسطيني وتمسكت بكل خصائصه وملامحه المميزة. وظل اقتراب المستوطنين اليهود من هذه الأحياء أما محدودا جدا أو مدفوعا بمخططات تستهدف الأماكن التي تؤمن لها الاقتراب من الحرم القدسي الشريف والإحاطة به ما امكن، كما يحصل في حي سلوان.

أما البلدة القديمة فقد ظل الاستيطان فيها مغامرا ومحصورا واقرب الى الرمزية.

حتى قوات الأمن الإسرائيلية فإنها لا تدخل حارات القدس العتيقة الا وهي بكامل عدتها وجاهزيتها، ومعها تعزيزاتها.

على الجانب الفلسطيني قام أهل القدس بالدور الأساسي والحاسم في الحفاظ على هذه الحالة، برفضهم المطلق والثابت للاحتلال ومقاومتهم المستمرة له بكافة الأشكال، وتمسكهم بأرضهم ومقدساتهم وهويتهم الوطنية. وساهم في ذلك بالدرجة الثانية، الفلسطينيون بالمناطق الفلسطينية الأُخرى، ثم الموقف الدولي الذي يرفض الاعتراف بالقدس كعاصمة للكيان الغاصب ويرفض نقل سفاراته اليها، وأما المساهمة من اي جهة أُخرى فظلت شبه معدومة.

اما على الجانب الإسرائيلي، فان دولة الاحتلال تفعل كل ما يتعاكس مع الادعاء بتوحيدها القدس، او نيتها بتوحيدها فعلا، وما يؤكد في نفس الوقت، ان ما تسعى اليه هو ضم القدس الشرقية وإلحاقها والحاق أهلها كأقلية بالقدس الغربية اليهودية.

فرغم إعلانها المتسرع جدا توحيد المدينة وسكانها فان دولة الاحتلال لا تزال حتى الآن تتعامل مع أهلها الفلسطينيين لا كمواطنين لهم حقوق المواطنة، حتى ولو كانت منقوصة قليلا، وإنما كمقيمين إقامة دائمة، بحيث تبقى هي ممسكة بقرار التحكم بهذه الإقامة ورافعة سيف شروطها وحقها بتغيير هذه الشروط وتصعيبها كلما استدعت ظروفها ومخططاتها ذلك. وممسكة أيضا بحق تحديد مدة الإقامة، كما فعلت مؤخرا بتحديدها بعشر سنوات تحتاج الى التجديد بعد كل انتهاء، ويحتاج تجديدها طبعا الى موافقة من الجهات المعنية (الأمنية بالتأكيد)، وممسكة كذلك بحق إلغاء الإقامة وسحب الهوية وطرد حاملها تحت أوهى الحجج، كما فعلت حتى الآن مع 15000 مقدسي، وغالبا ما يترافق سحب الهوية مع نسف منزل حاملها وعائلته.

ناهيك عن كل الإجراءات والقوانين الأُخرى التي تؤكد حقيقة الموقف الإسرائيلي تجاه ضم المدينة وإلحاقها، من التعليم الى الصحة الى محاصرة المؤسسات الاجتماعية والثقافية الى....وصولا الى الاعتداءات على المقدسات والاقتحامات للمسجد الأقصى ومطلبها بتقاسمه مع المسلمين زمانيا ومكانيا على طريق بناء هيكلهم الثالث المزعوم على أنقاضه.

الحقيقة الأكيدة ان القدس لم تتوحد تحت الاحتلال رغم كل ادعاءاته وإجراءاته.

وان القدس رغم الاحتلال وكل اعتداءاته عليها لا تزال تحتفظ ببهاء وجهها الفلسطيني العربي، يفوح من كل ركن فيها عبق تاريخها المجيد، وتختزن في مقل العيون مقدسها سليماً طاهراً ومحروساً لكل المؤمنين.

والقدس لن تكون يوماً إلا عاصمة دولة فلسطين.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]