سبقني الكثيرون في تناولِ خلفيّةِ اقتراحِ "قانون أساس: إسرائيل الدولة القوميّة للشعب اليهودي"، ومضامينِه وإسقاطاتِه المحتملة. فلا بأسَ إن كرّرنا بعض النقاط التي سبقنا إليها آخرون، من زوايا أخرى، فيما سنحاولُ تصليتَ الضوء على جوانب لا تقلُّ شأناً وخطورةً في هذا القانون المقترح.
أولاً: اقتراحُ القانون مكتوبٌ بصيغةٍ غير مهنيّة، ممّا يدلُّ على أن الذين صاغوه كانوا في عجلةٍ من أمرِهم. فقوانينُ الأساس تهدفُ مجتمعةً إلى تشكيلِ دستورٍ، كما أعلنَ مشرّعو قوانين الأساس السابقة مراراً وتكراراً. ويُتوخى، بالتالي، أن تصاغَ قوانين الأساس بمهنيَّةٍ، بتأنٍّ، بعمقٍ تليقُ بمقامِها وأثرها. وعلى أيةِ حال، فهذا قانونٌ خطيرٌ، سواءً كانت صياغتُه مهنيّة أو غير مهنيّة.
ثانياً: مقولةٌ شهيرةٌ في مجال القانون تنصُّ على أنَّ الحالاتِ الصعبة تُنجبُ قوانين سيئة (Hard cases make bad laws). وكلُّنا يشعرُ بأنَّ دولةَ إسرائيل تعيش في ظروفٍ عصيبة، وأنَّ التدهورَ والتراجعَ باتَ نصيبَ كلِّ مجالات الحياة. وما التعصُّب العنصريُّ وإذكاء نيران الفتن الدينيّة وانتهاكات القانون من القائمين عليه حصراً، سوى بعضِ الدلائل والأدلّةِ على هذا الانحدار العام.
ثالثاً، قوانين الأساس تحتلُّ مرتبةً أعلى من القوانين العاديّة، إلى درجةِ أنَّ المحكمة ذاتَ الصلاحيّة مُخوّلةً أن تُبطِلَ قانوناً عاديّاً يتناقضُ مع قانونٍ أساس. وهذا هو وضعٌ شبيهٌ بعلاقة القوانين العاديّة بالدستور، في الدول التي يوجد فيها دستور. ومن جانب آخر، فإن المحاكم ملزمةٌ بتفسير القوانين العاديّة بما لا يتعارض مع القانون الأساس (أو مع الدستور، في حالة وجود دستور). واقتراح "قانون القوميّة" ينصُّ، في أحد بنودِه، على ذلك صراحةً.
رابعاً، لعلَّ من أخطر المضامين التي ينصُّ عليها "قانون القوميّة"، هي: تعميقُ ومأسَسةُ التعامل مع المواطنين غير اليهود ومع لغتِهم وحقوقهِم ومنزلتِهم، وكأنَّهم سقطُ متاعٍ أو هامشٌ مُهمَّشٌ، ورفعُ مكانةِ التراث اليهودي الدينيِّ والتشريعي الرجعيّ إلى المرتبة الأولى فوق سائر القوانين، بما فيها قوانينُ أساسٍ قائمة، والخلطُ المتعمّد بين "أرض إسرائيل" (التوراتيّة) و"دولة إسرائيل"، التي لا حدودَ نهائيّة لها حتى الآن، وبطبيعة الحال تغليبُ يهوديّة الدولة على دمقراطيّتها.
خامساً، قبل حوالي عشرين عاماً، فتحتْ إحدى الصحف العربية صفحاتِها لمناقشة مسألة غياب دستورٍ مكتوبٍ في إسرائيل. وكان لي مقالةٌ، جاء فيها أن سنَّ دستورٍ (أو قانونٍ أساسٍ) يحتملُ إمكانَ التطوّر أو التدهور. ففي ظلِّ أغلبية يمينيّة متطرفة، وتعصُّبٍ يميني عنصريٍّ في الأوساط الشعبيّة، فإنَّ سنَّ دستورٍ (أو قانونٍ أساسٍ) يعني تعميقَ الاتجاهات السلبيّة ووضعها في قمّة الهرم. وهذا ما هو حاصلٌ الآن.
سادساً، كانت مقولة "إسرائيل دولةٌ يهوديّةٌ دمقراطيّة"، منذ تأسيس الدولة، وما زالت مقولةً مُلتبسةً وفيها إشكالٌ حقيقيٌّ. فكيف يمكن، قالَ المنتقدون وعلى رأسِهم البروفيسور يشعياهو ليبوفيتش، أن يتعايش النقيضان؛ يهوديّة الدولة ودمقراطيتها؟! وكما في كلِّ لقاء بين الأضداد، لا بدَّ أن يتفاقمَ النزاعُ بينهما. وفي حالة قانون "القومية" فإن يهوديّة الدولة ستأكلُ دمقراطيتَها.
سابعاً، إن المتضرِّرين الأوائل من "قانون القومية" هم جميعُ غير اليهود، وبدون استثناء. صحيحٌ أنَّ ثمةَ العشرات من القوانين العنصريّة، التي تمنحُ اليهوديَّ لمجرد كونه كذلك، امتيازاتٍ على غير اليهودي. بعض هذه القوانين صريحٌ، مثل قوانين الهجرة والمواطنة، ومنها خبيثٌ، بمعنى أنّه يمنحُ اليهود امتيازات بأسلوبٍ خبيث، بوضع معايير تناسب اليهوديَّ ولا تناسبُ غيرَه، تحت تسمياتٍ مختلفة. هذا فضلاً عن سلوكيّات السلطة المركزيّة التي تزيد الطينَ بلّةً.
غيرَ أن قانون "القوميّة" يؤسِّسُ لهذا السلوك تجاه غير اليهود ويعمّقُهُ ويوسِّعُ رقعتَهُ، سواءً فيما يتعلّقُ بإسقاطِ الصبغة الرسميّة عن اللغة العربية أو مسألة العطل الرسميّة والأعياد أو تهميش غير اليهود، بالإشارة الخجولة إليهم وكأنّهم أتباعٌ وجوارٍ أو جزءٌ غيرُ مرغوبٍ فيه من المنظر الطبيعي. والقانون، في الأساس، يعطي الصلاحيّات للمحاكم وغير المحاكم ويلزمها بفهم كل القوانين وتفسيرِها وتطبيقِها وفقاً للشريعة العبرية والتراث اليهودي، اللذين يغصّان بالقيم الرجعيّة والعنصريّة والتمييز ضد الأغيار وفئاتٍ من المجتمع اليهودي نفسه.
ثامناً، في إطار المادَة المرفقة لتفسير اقتراح القانون، جاءت صراحةً أقوال قاضي المحكمة العليا حينئذٍ (نائب رئيس المحكمة)، مناحم إيلون. وهو خبيرٌ في الشريعة العبريّة، وكان من أبرز المنافحين لتفسير القوانين وفقاً للشريعة اليهوديّة. لكن، فيما وقف في مواجهته قضاةٌ علمانيّون ومن مناصري الدمقراطية وتغليبِها على الشرائع الدينيّة القديمة (أمثال القاضي حاييم كوهن ومن بعده رئيس المحكمة أهرون براك)، فإنَّ اقتراح القانون ينصُّ صراحةً على انتهاج نهج القاضي إيلون.
تاسعاً، اقتراحُ القانون يذكرُ، هنا وهناك، مبادئ الدمقراطية وقيمَ العدل والسلام وفقاً للتراث اليهودي، وهي زركشاتٌ تستهدفُ التضليل، لكنَّ جوهر الاقتراح هو بسطُ سيطرةِ الشرائع اليهودية والتراث اليهودي، ما يعني نسفَ الأسس الدمقراطيّة. والتراثُ التشريعيُّ العبريّ، القديم والمبنيّ على أساس التمايز عن الآخرين، يفهَمُ العدلَ والسلام فهماً مناقضاً لهاتين القيمتين في الأزمنة الراهنة. حتى الوصايا العشر (لا تقتل ولا تزنِ وغيرها) تُفسَّر على أنها تسري بين اليهود، وهي لا تنطبق على غيرِهم. وهو تراثٌ مُشبَّعٌ بالعنصريّةِ ضدَّ الأغراب.
عاشراً، والتراثُ التشريعيُّ العبريُّ معادٍ ليسَ فقط لغيرِ اليهود، وإنّما أيضاً لفئاتٍ مستضعفة في داخل المجتمع اليهودي. فالمرأةُ اليهوديَّةُ في التراث العبري التشريعي تابعةٌ تماماً للرّجل، ومهضومة الحقوق. وعليه، فإنَّ تتويجَ قانون القوميّة على رأسِ الهرم يُهدِّدُ بنسف الحقوق النّسويّة، وحقوق فئاتٍ أخرى في المجتمعِ المعاصر برمَّتِه، بما فيها حقوقٌ نصّت عليها قراراتُ المحكمة العليا.
وأخيراً وليسَ آخراً، فإنَّ اقتراحَ القانون يدلُّ على أزمةٍ كبيرة في المجتمع الإسرائيلي. يجوزُ أن أربابَ السلطة من اليمين المتطرف، بما في ذلك داخل حزب الليكود، تلقي بشباك هذا القانون لاصطياد التأييد سواء في الانتخابات التمهيديّة داخل الأحزاب نفسِها أو في الانتخابات البرلمانيّة. غير أن هذا الرأيَ لا يطمئن. لأنه يعني أنَّ أوساطاً شعبيّة واسعة جدّاً، تؤيدُ التطرفَ القومي والدينيّ والدوس على حقوق الغير وعلى القيم الدمقراطيّة، على علّاتها، وأنَّ القيادةَ اليمينيّةَ مجرورة وراءَ هذه الأوساط من غلاةِ العنصريّين والسلفيّين والرجعيّين.
اقتراحُ القانون، بالخلط بين حقوق الشعب اليهودي المطلقة في "أرض إسرائيل" وبين دولة إسرائيل (التي لم تتحدَّد حدودُها إلى الآن)، ينذرُ بنسف أيِّ احتمالٍ للمفاوضات السلميّة ويمهِّدُ الطريق لمزيدٍ من الاستيطان ممَا يجعلُ إمكانَ حل الدولتين مستحيلاً.
كانَ من المتوقع أن يثيرَ هذا القانون، وما يحملُه من مخاطر خصوصاً على غير اليهود، إعصاراً في أوساط المواطنين المسلمين والمسيحيين والدروز. وكان من المنتظر أن تدفعَ هذه المساعي العنصريّة، غير الخجولة، إلى أن تقيمَ قياداتُنا الدُّنيا وأن لا تُقعدَها وأن تسارعَ إلى الوحدة والعمل المشترك، بدلاً من الاقتتال.
كان من المنتظر، ونرجو أن تقومَ قياداتُنا في أسرعِ وقت بذلك، اتخاذُ سلسلةٍ من الخطوات المُنسّقة لمواجهة هذا الخطر الذي يتهدّدُنا جميعاً ويتهدَّدُ وجودنا، أفراداً وجماعات. وأضعف الإيمان اتخاذُ خطواتٍ عمليّة حازمة، منظّمة، موحّدة ووفقاً للقانون الراهن، المُهدَد هو أيضاً.
فالعاصفة لا ترحم النّعامة، حين تضعُ رأسَها في الرّمال المتحرّكة.
[email protected]
أضف تعليق