اليوم علينا أن نعترف، آن لنا أن نواجه أنفسنا أمام المرآة ونعترف. كثيرون كتبوا عن العنف الذي يسرح ويمرح على هواه في بلداتنا وشوارعنا وساحاتنا، ورغم ذلك يجب أن نعترف. هيئات شُكِّلت ولجان كُوِّنَت وجمعيات سُجِّلَت ومبادرات أُعلِنَت، كي تحارب العنف وتقف أمامه سدا منيعا، ولا بد أن نعترف.
لم تكن أبو سنان ومعاركها الداخلية الطاحنة آخر الوقائع الجاهلية.. فقبل أن يتم اخماد الحريق فيها، وقعت اشتباكات مسلحة في رهط في الجنوب الصحراوي.. ولم تكن أبو سنان أولى الغزوات القبلية.. سجلوا تراجعيا: شفاعمرو، المغار، الرامة، الناصرة، طرعان، كفرياسيف. وسجلوا ميادين المواجهات العائلية والحمائلية: طمرة، الطيبة، قلنسوة، عرابة وغيرها. واذكروا الزوايا المعتمة للجرائم الفردية الناتجة عن التكبر والتفاخر والأنانية و"شرف العائلة" الكاذب: الناصرة، حيفا، أم الفحم، الطيبة، الطيرة، عرابة، رهط، الرملة، يافا وغيرها وغيرها ومعذرة ممن نسيتهم الذاكرة الشخصية، التي لم تعد تتسع لحفظ كل المآثر والأماكن الشاهدة على عروبتنا الجاهلية، بامتداداتها العائلية والقبلية والعشائرية.
نعم آن لنا أن نعترف اعترافا جماعيا أننا فشلنا. فشلنا في تربيتنا. فشلنا في تعايشنا. فشلنا في جوارنا. فشلنا في حوارنا. فشلنا في تعاملنا.. فشلنا في حياتنا. عشنا في كذبة كبيرة اختلقناها وصدقناها ونمنا على أمجادها الكاذبة. قلنا أننا شعب واحد، مجتمع موحد، جيران متحابين، أخوة متسامحين، وأنشدنا دون وعي "قد تآخينا هلالا وصليبا" وهتفنا بلا فهم "وحدة وحدة وطنية.. اسلام، دروز ومسيحية"، فاذا نحن مجموعات طائفية، حمائلية، عشائرية وقبلية.
نعم، نحن نجيد كتابة البيانات المحشوة بالشعارات والكلام الفصيح والاقتباسات. نعم، نحن نعتلي المنابر فنشرق ونغرب، ولا نترك موضوعا لا نتطرق اليه وكأننا واضعو موسوعات. نعم، نحن نتقن الكلام المنمق وعبارات المجاملة وحديث النفاق، ونحفظ أبيات المديح والتبجيل والتفاهات. نعم نحن نلتقي فيسبقنا السلام ويأخذنا الكلام، ونودع بالسخرية والمقلتات. نلتقي في المناسبات فتعلو وجوهنا الابتسامات، وندبر عن بعض فتبدأ الوشوشات. عندنا أحزاب وقيادات بارعة في اصدار البيانات. لدينا لجان وجمعيات ومؤسسات، لا تعد ولا تحصى لكنها قليلة البركات. نجامل ننافق نماليء كل ذلك باسم القيم والسلوكيات. ندعو للتجديد والتحديث ونتمسك بالتقاليد والعادات. نشتم العائلية والطائفية ونتشبث بالطوائف والعائلات. ندعو لنبذ العصبية والقبلية وأفكارنا غارقة في السلفيات. نتحدث بلغة اليوم ونفكر في عالم الغيبيات. نستخدم الكمبيوتر والانترنيت والفيسبوك، لكننا نتحدث بلغة الديوان والقيل والقال والنميمة والاشاعات. لدينا لجنة قطرية ولجنة متابعة وتنقصنا الوحدة والتضامن والتحالفات.
علينا أن نعترف أننا دسنا على كل تاريخنا الجميل والناصع، وتبعنا بطولاتنا وأيامنا الوهمية. علينا أن نقر ونعترف بأننا تركنا قيمنا الأصيلة الشريفة، ولهثنا وراء العصرنة والحداثة ونحن لا نفقه فيها الأبجدية. فهمنا تحويل الخد الأيمن على أنه استسلام وخنوع، دون معرفة المقاومة السلمية. أدخلنا في تفكيرنا نصرة أخينا في ظلمه، دون التعمق في رده عن العنجهية. بحت حناجرنا ونحن نفاخر كذبا، لكننا وبحق كما قال نزار نحن التذبذب والباطنية.
قيل لعمر بن عبد العزيز: أي الجهاد أفضل؟ فقال: جهادُكَ هواكَ. (نقلا عن كتاب "الكامل في اللغة والأدب" للمبرد). لكننا ظننا الجهاد هو القتل وسفك الدماء، الذبح ونكاح النساء، هتك حرمات البيوت والأبرياء، تفجير دور العبادة حتى الفناء، وتدمير الأوطان وتقطيع الأوصال، دون رحمة أو رجاء. فاذا لم نفهم حقيقة الجهاد في محاربة الأهواء، واذا لم ندرك ما يحاك لنا في ليل الغرباء، واذا لم نتجه نحو بوصلة العقلاء، سنبقى في ويل وجهل وعناء. ألا بقي منا من يستجيب لحكمة النداء؟!
(شفاعمرو/ الجليل)
[email protected]
أضف تعليق
التعليقات
هذا كلام جميل وصادق وانت غير راضي عن هذا الوضع فلذلك يجب ان نعترف باننا ما زلنا نخطي حتى هذا اليوم ولك الشكر على هذا المقال