يحلو لأحد السياسيين المشهود له بخبرته الطويلة والعميقة في الواقع السياسي اللبناني، وصف ملف الانتخابات الرئاسية بأنه اصبح في الافق البعيد بعدما كان في عالم الغيب. وهو ما يعني أنّ هذا الملف الذي لم يكن موجوداً بسبب التطورات الهائلة التي تضرب الشرق الاوسط في صميمه، باتت الرؤية في اتّجاهه أقل ضبابية، ولو أنّ المسافة الفاصلة عنه لا تزال طويلة الى حد ما.

مردّ هذه الصورة يعود الى تلاحق التحركات ولو أنه لا يزال يكتنفها غموض كثير. فاللقاءات التي عقدها وزير الخارجية الاميركي جون كيري في شأن المنطقة خصوصاً اجتماع سلطنة عمان لا يتجانس مع المواقف التي يطلقها الرئيس الاميركي باراك اوباما. وإعلان القيادة العسكرية الاميركية البدء بالمرحلة الثانية أو ما يقصد بها الجديّة في الحرب على «داعش»، لا يتماشى كثيراً مع الاعلان الايراني- الروسي عن مزيد من التعاون النووي.

وفي سوريا، لا يبدو الانفتاح المصري- الفلسطيني في اتجاه دمشق منسجماً مع موقف المملكة العربية السعودية، كذلك إعلان اوباما أن لا مكان للنظام في التحالف ضدّ «داعش»، لا يتماشى مع ما حصل في الكواليس، ولا مع طرح موسكو صيغة حلّ ولو موقتة للحرب الدائرة.

هناك مَن يقول إنّ المناورات السياسية تتداخل مع المواقف الفعلية بعدما شعر الجميع بأنّ الوقت ينفذ بسرعة. فطهران التي ترزح تحت ثقل الازمة الاقتصادية، والغارقة في صراع سياسي داخلي كبير، تدرك جيداً أنّ الجمهوريين الذين امسكوا بالكونغرس يتّجهون لاعادة تعزيز الاعتمادات المخصصة للمسائل العسكرية.

وبمعنى آخر سيكون لقطاع الصناعة الحربية الذي يشكل ركناً أساسياً داخلياً، والذي ساهم في الانتصار الجمهوري، دور اكبر في المرحلة المقبلة تمهيداً لترجيح كفة مرشح جمهوري يتبنّى مصالح هذا القطاع. ولم يعد سراً أنّ هذا القطاع شكل الارض الصلبة للرئيس الاسبق جورج دبليو بوش، ما سمح له بتجديد ولايته، طبعاً الى جانب قطاع رجال اعمال النفط.

في المقابل، تحدثت مراكز الدراسات الاميركية كثيراً في المراحل الاخيرة عن الثغرات الكبيرة في الاستراتيجية العسكرية الايرانية في الشرق الاوسط، والتي كشفها تمدّد «داعش» السريع في العراق وسوريا وصولاً الى مناطق ملاصقة للاراضي الايرانية. ضعف استخباري وثغرات عسكرية.

وينطلق هؤلاء من هذا الواقع ليستنتجوا أنّ تدوير الزوايا والمرونة في المواقف يبقى السلوك الافضل لكلّ من واشنطن ودمشق، طالما أنّ نقاط التلاقي الاستراتيجية تبقى كثيرة وعديدة.

وفي دمشق، هناك مَن يعتقد أنّ استعادة موسكو حركتها القوية في الملف السوري إنما لها علاقة بالحفاظ على دورها في سوريا بعدما سمحت الحرب ضدّ «داعش» بدخولٍ اقوى لواشنطن الى قلب الملف السوري على حساب دور روسيا.

لكنّ الدور المصري الناشط في الكواليس، والاوراق الموضوعة على شكل مسودة حلّ، يعطيان الانطباع بأنّ آفاق الحركة قد تذهب ابعد مما يتوقّع الجميع.

وفي لبنان أيضاً، غموض في الحركة السياسية وإشارات متضاربة لا بل متناقضة. فالحوار بين «المستقبل» و»حزب الله» بدأ ولو بطريقة غير مباشرة، أيْ من خلال الرئيس نبيه برّي.

وحسب معلومات دقيقة، فإنّ الملف الاول الذي حاول «المستقبل» وضعه على طاولة النقاش كان ملف الانتخابات الرئاسية، لكنّ «حزب الله» أحاله الى العماد ميشال عون، في إشارة فُهم منها رفض البحث في هذا الملف أولاً وقبل الدخول في ملفات اخرى.

وفي معنى أوضح، فإنّ الحوار بدأ ولو أنه لا يزال حتى الساعة بلا مضمون جدي. وفي المقابل، بدت زيارة وفد «حزب الله» الى الرابية، بمثابة رسالة دعم مفتوحة لعون، او كما فسرها للوهلة الاولى بعض المراقبين بأنها لدفعه اكثر إلى التصلب في مواقعه.

لكنّ إشارتين كبيرتين ظهرتا سريعاً وقد تحملان علامات استفهام كثيرة. الاشارة الاولى تتعلق بتأكيد الوفد لعون أنّ «حزب الله» يدعمه في ترشحه لرئاسة الجمهورية، وأيّ شخص يحمل المزايا نفسها. واللافت هنا أنها المرة الاولى التي لا تحصر فيها المسألة بعون دون غيره، وذلك من خلال عبارة تحمل كثيراً من التأويل وقابلة لأن تحمل تفسيراً واحداً.

اما الاشارة الثانية، فجاءت في تصريح المعاون السياسي للسيد حسن نصرالله، حسين الخليل بعد الاجتماع، حين قال إنّ «حزب الله» يدعم ترشيح عون حتى إشعار آخر.

قلة تنبهت لعبارة «حتى اشعار آخر»، ومن هذه القلة، ديبلوماسيون غربيون حاولوا الربط ولكن بكثير من الحذر، بين الحديث عن شخص «يحمل مزايا العماد عون»، وبين عبارة «حتى اشعار آخر»، وهل هناك اشارات مبطنة من خلال ذلك، ام مجرد خطأ وإساءة في طريقة التعبير.

طبعاً، ما يشجع على استرسال هؤلاء في استنتاجاتهم، هو الغموض الذي يلف المفاوضات الاقليمية وتأرجح الصورة ما بين هبّة باردة واخرى ساخنة.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]