في ظل الاحتلال والاستيطان واستمرار سياسات القمع والقهر اليومي ومحاولات تغيير طابع القدس وواقعها الجغرافي والديموغرافي ، يحتفل الشعب الفلسطيني بمناسبة إعلان الاستقلال ، حيث يتم تعطيل الدوائر والمؤسسات وتتركز الأحاديث الاعلامية الرسمية حول فحوى هذه المناسبة.
ولا شك أن بيننا من يتساءلون ولو بينهم وبين أنفسهم ، أحقا نحتفل بالاستقلال؟ وأي استقلال هذا ونحن نقارع الاحتلال والاستيطان ونتمسك بأرضنا وإيماننا تماما كالقابضين على الجمر كمن وصفهم الرسول عليه السلام ، تُسلب أرضنا أمام أعيننا وتدنس مقدساتنا وتُزهق أرواح أبنائنا.
فالدولة هي أرض وشعب يجمعهم ماض وحاضر وثقافة ولغة وتطلعات مستقبلية ، وحلم وأمل ، وهي أرض لها حدود آمنة ومعترف بها ، وشعب متجانس ومتآلف ، وتاريخ يفتخرون به وحاضر يسعون متكافلين متضامنين إلى مشاركته ومعايشته ، وثقافة ولغة تشكل القاسم الأعظم بينهم تمنحهم صلة التواصل لتحقيق ما يصبون إليه وما يحلمون به.
نحن تتوفر لنا معظم هذه المقومات والعناصر إن لم تكن جميعها ، إلا أننا تعرضنا منذ مطلع القرن الماضي إلى أقسى ظلم عرفه التاريخ الحديث. فقد تعرضنا إلى احتلال استيطاني يسلب أرضنا وبيوتنا ، ويهنأ وهو يرقص على أشلائنا وينعم بالرغد في بيوتنا التي طردنا منها.
هل يستطيع أحد أن يتصور كيف يمكن أن يكون شعورك وأنت تمر من أمام بيت ولدت فيه وشجرة أمضيت طفولتك تلعب تحتها وهي اليوم في حيازة غيرك يسكن البيت وينعم بالبستان وأنت مشرد لا بيت ولا مأوى تحمل اسم لاجىء ؟ أو كرم تعهده الأجداد والآباء يروونه من عرقهم المتصبب يراقبون كل غصن أينع أو برعم نما وترعرع ثم يأتي من يسلبه وينعم به على مرأى ومسمع منك ؟!
هل يستطيع أحد أن يتفهم معنى كلمة لاجىء في وطنه مطالب بأن يمنح الشرعية والأمن والهدوء والاستقرار لمن حرمه كل ذلك ؟ وليس هذا فحسب ، بل لا زال يناضل من أجل الاحتفاظ بما تبقى له قبل أن ُينتزع من تحت أقدامه لأن من أخذ ما أخذ لم يستكف بما أخذ وإنما لا يزال يسعى لأخذ المزيد..!
عيد الاستقلال.. هذا اليوم ليس يوما للفرح وإنما يجب أن يكون يوما لمحاسبة الذات قبل محاسبة الضمير الانساني.
وفي حسابنا للذات نقاط إيجابية لا بد من الإشادة بها والحفاظ عليها ، ونقاط سلبية لا بد من المصارحة والمكاشفة فيها.
وفي مجال الايجابيات فإننا يجب أن نسجل بفخر بأننا صمدنا رغم كل محاولات التذويب والاحتواء وطمس الهوية ، وبدلا من أن نضمحل كما اضمحلت شعوب أخرى عبر التاريخ فإننا نزداد صقلا وبلورة في كل يوم يمر ، ويزداد تمسكنا بهويتنا وبحقوقنا وبوجودنا ، وهذا الأمر بحد ذاته يُقض مضاجع الاحتلال ويثبت له فشله المستمر في إثبات مقولة .. أو كذبة... أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.
نحن إذن وكما كان يقول الشهيد الرئيس الراحل أبو عمار.. طائر الفينيق ..الذي ينهض من تحت الرماد..
وبالفعل فنحن الجمر الذي وإن خبا يوما تحت الرماد فإنه ما زال له وميض يتأجج بين الفينة والأخرى وله اشتعال ذو ديمومة لا تنطفىء...نحن الجمر تحت الرماد.
وإلى جانب صمودنا وثباتنا ضد محاولات الاستيعاب والطمس والتذويب ، فإننا قدمنا وعلى مدى عقود طويلة من النضال أضخم التضحيات من قوافل الشهداء والأسرى والجرحى تتوالى الواحدة إثر الأخرى دون كلل أو ملل ، أمواج كأمواج البحر الصاخب تتكسر على شواطىء البحث عن الحرية... ولا شك بأن تلك القوافل هي حملة المشاعل التي ما زلنا نسير على هدي خطواتها.
وتظل قوافل الشهداء هي الطليعة تساندها قوافل من أفنوا ويفنون أجمل سني شبابهم وراء الجدران والقضبان لا لشيء إلا لأنهم آمنوا بحقهم في الحياة الحرة الكريمة .
نحن بعبارة مختصرة جدا ... عصيون على التذويب.. عسرون... لا يقوى علينا أي مذيب!
هذه الظاهرة الفريدة من بين شعوب الأرض تبشرنا بأن العناء سيستمر وقتا أطول مما كان من الممكن أن نتوقع... ويبشرنا في نفس الوقت بأنه لا بد لليل من آخر... والذين فشلوا طيلة عقود في القضاء علينا أو على هويتنا وانتمائنا لن ينجحوا أبدا لأننا كالألماس نزداد صلابة وقوة كلما تعرضنا للصقل .
هذه بعض إيجابياتنا .. فما العلامات السلبية ؟ نحن لم نوفق طيلة تاريخنا النضالي في إيجاد القيادة الجديرة بنا كشعب فقد كنا دائما نسبق قياداتنا ونتركها تلهث وراءنا...ونحن كنا نعاني دائما من اقتتال الزعامات على الحكم ولم ننجح في يوم من الأيام في أن نقول لها كفى ! بل نتركها تفعل ما تشاء...ثم نكتشف أننا ربما أخطأنا في تركها تسير على هواها.. ولكننا لا نملك الوسيلة لوقف سيرها في الاتجاه الخاطىء..
ما نحتاجه اليوم في ذكرى إعلان الاستقلال هو إدراك أننا لن نتخلى ولن نستسلم... وأن علينا أن نبحث عن الوسيلة التي تستطيع أن توقف القتال والاقتتال على الزعامة ، وأن نخلق القيادة القادرة على أن تكون على مستوى المعركة والتحدي .. القيادة التي لا وجود لكلمة انقسام في قاموسها ولا كلمة استسلام ولا لهاث وراء سراب خادع. القيادة التي تسبق الشعب ولكنها تسير على هدي بوصلته التي لا تضل ولا تسهى....القيادة التي لم تولد بعد... ويقينا أنها ستولد لأن شعبنا لم يُصب بالعقم أبدا.
[email protected]
أضف تعليق