قنبلة استيطانية جديدة من العيار الثقيل تطلقها الحكومة الإسرائيلية بعيد زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى المنطقة، للبحث في موضوع توجه الفلسطينيين إلى مجلس الأمن، والغليان الشعبي الفلسطيني بفعل العدوان الصهيوني ضد القدس والمقدسات الإسلامية.

من أهم مفارقات زيارات كيري، أنها مرتبطة بكوارث لا تصب في مصلحة الفلسطينيين، خصوصاً وأن صاحب القرار في إسرائيل يحرص على أن يطلق مشروعاته الاستيطانية مع حضور السيد الأميركي إلى المنطقة.

هذه المرة وكما هو الحال في مرات كثيرة لا تعد ولا تحصى، قررت الحكومة الإسرائيلية بناء 200 وحدة استيطانية شمال القدس الشرقية، تزامن الإعلان عنها مع قدوم كيري إلى الأردن ولقائه كلا من الملك عبدالله والرئيس محمود عباس.

هذا القرار الإسرائيلي من المرجح أن تتبعه قرارات أخرى تستهدف تهويد القدس في زمن قياسي ربما سيدخل قائمة "غينيس" من سرعة وشدة الاستيطان الإسرائيلي المستند على أرضية توفر الجو المناسب لتمرير مثل هكذا قرارات تفتح شهية المستوى الرسمي ويقبلها ويرحب بها الرأي العام الإسرائيلي.

والقرار نفسه لن يؤثر كثيراً على المزاج العام، لا الدولي أو العربي وحتى الفلسطيني أيضاً، والسبب أن الولايات المتحدة الأميركية التزمت فقط بسياسات التنديد و"القلق العميق"، وأما الغرب فهو لا يأخذ الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين ومقدساتهم على محمل الجد، وأما العرب فهم غارقون في متابعة أحوالهم، وجزء منهم شامت لوضعنا الانقسامي الداخلي.

فلسطينياً لا يوجد خطاب موحد وحركة موحدة تواجه المخططات الاستيطانية الإسرائيلية، وهذا ينطبق على الضفة الغربية التي تعيش حالةً من الغليان الشعبي على الفعل الإسرائيلي الذي يريد بممارساته العنصرية في القدس، السيطرة التدريجية على هذه المدينة.

بسبب الانقسام فإن أكثر ما يصوغه صاحب القرار الفلسطيني مجرد إدانة وألفاظ ليس لها وزن في عالم السياسة، فيما يترك الفعل الفلسطيني الشعبي لنشطاء ومجموعات محددة، دون أن يتدخل الكل الفلسطيني لحماية الأقصى والدفاع عن المقدسات الإسلامية.

أصحاب الانقسام نعم يتحملون وزر ما يجري في القدس، لأنهم أطاحوا بالأولويات على حساب قضايا حياتية افتعلت وحضرت في فترة الحرد الفصائلي، الأمر الذي انعكس على حالة الصمود الفلسطيني وعلى المناعة التي يفقدها الناس تدريجياً بفعل فصائل الانقسام.

قبل إعلان إسرائيل عن بناء الوحدات الاستيطانية، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يحمّل الرئيس عباس مسؤولية التوتر الجاري في القدس، ويزيد على ذلك وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان باعتبار عباس أخطر من عرفات.

كل هذا يفعله الإسرائيليون تأكيداً لرفض السلام، بينما تتأثر سكة المصالحة الفلسطينية على وقع الاتهامات المتبادلة بين حركتي فتح وحماس، على خلفية تفجيرات طالت المنصة الخاصة باحتفالية ذكرى رحيل أبو عمار، فضلاً عن منازل بعض قيادات فتحاوية في قطاع غزة.

إسرائيل تمتلك أجندة خاصة بها تقوم على إدارة الصراع وتقزيم القضية الفلسطينية والاستفراد بها، بينما الفلسطينيون لا يملكون أجندة وطنية واضحة للدفاع عن ثوابتهم وحقهم المشروع، والوقت برهن أنهم يديرون أزمتهم دون أن يجدوا لها طريقاً للحل.

في كل الأحوال لا يهم إسرائيل أن يتفق أو يختلف الفلسطينيون، لأنها ماضية تماماً في مخططاتها، اللهم أن الاختلاف الفلسطيني سيعني بالنسبة لها راحةً أكثر في غض الطرف عن ما تقوم به دولة الاحتلال من أفعال مجرمة وفق كافة القوانين.

لكن ستقلق إسرائيل كثيراً لو أن الفلسطينيين اتفقوا على مصالحة حقيقية ووضعوا السلام (بالمفهوم الإسرائيلي) جانباً، مقابل أولوية الدفاع عن كرامتهم في إطار أجندة وطنية موحدة، أما أن يظل الرئيس عباس متمسكاً بالسلام ويعطي كل انتباهه إلى النضال الدبلوماسي في المحافل الدولية، فهذا لن يشكل أكثر من وخزة لإسرائيل.

لقد أمنت إسرائيل نفسها تجاه الولايات المتحدة الأميركية، خصوصاً وأن كيري الذي يزور المنطقة ينسق مع نتنياهو على التلفون دون الحاجة إلى زيارته وطمأنته حضورياً، وأما قصة ذهاب الوزير الأميركي إلى عمان فهي من أجل الضغط على الطرفين الأردني والفلسطيني لجهة التهدئة في القدس والمساومة على التوجه الفلسطيني في الأمم المتحدة.

وربما ستوافق الولايات المتحدة على إصرار الفلسطينيين التوجه إلى مجلس الأمن الدولي، كنوع من التنفيس إزاء العناد الإسرائيلي، لكن في كل الأحوال سيبقى باب مجلس الأمن مغلقاً بالفيتو الأميركي، الأمر الذي يدركه الفلسطينيون جيداً.

لا يقصد من هذا القول التخلي عن النضال السلمي في المحافل الدولية، مع العلم أن معركة الفلسطينيين الأصلية هي في الأساس داخل الأراضي الفلسطينية، وهذه الأوقات مهمة وثمينة جداً ولا يمكن الاستخفاف بما يجري في القدس المحتلة، لأنه إذا جرى السكوت عن الأفعال الإسرائيلية فهذا يعني مقدمة لضرب وتصفية القضية الفلسطينية.

إذا سكت الفلسطينيون عن حقهم في القدس فهذا يعني السلام على هذه الأرض الطيبة، لأن إسرائيل تشتغل على نظرية الحرق التدريجي، وكلما لم تجد مقاومة صلبة، فإنها تستأسد وتتقدم في مخططاتها بغية تأمين وترسيم مشروعها الوجودي في الضفة.

هذه المرحلة لا تحتاج حقيقةً إلى سلام أبو مازن، ولا إلى حرد فصائلي وشتيمة هنا وهناك، هذه المرحلة تحتاج إلى تثبيت أجندة وطنية يشترك فيها القاصي والداني دفاعاً عن الشرف والهوية والوجود الفلسطيني.

في كل يوم إسرائيل تتجه إلى التطرف ونحو تكريس وقائع جديدة في الضفة الغربية، وكأنها أرادت الاستعاضة عن خروجها من المستوطنات وإعادة انتشارها في قطاع غزة بوضع الضفة في بطنها، وكل يوم تولد قوانين وقرارات تخدم الأجندة الإسرائيلية الاستيطانية.

الآن لم يعد ينفع الحديث عن إطار للتسوية، لأن الواقع أبلغ من صمت الكلام، والأهم من كل هذا أن يبحث الفلسطينيون في أولوياتهم ويتجاوزا ولو مؤقتاً موضوع الانقسام الداخلي، بالإعلان عن أجندة طوارئ وطنية مستعجلة لمقاومة إسرائيل بكل الوسائل والسبل الممكنة.

بدون أجندة وطنية والتقاء فلسطيني لصد العدوان الإسرائيلي البربري على مقدساتنا الإسلامية، فإن حالنا كمن يحرث في البحر أو أنه لن يكون أفضل من حال الفارس "دون كيشوت" في صراعه الافتراضي مع طواحين الهواء.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]