صدّقت الكنيست الإسرائيلية، بالقراءة الثانية والثالثة، على القانون الذي أسماه قادة اليمين بقانون "منع الإفراج عن الإرهابيين الفلسطينيين"، والذي بموجبه، صودر حق الحكومة بالإفراج عن أسرى يدانون بعمليات قتل، إذا صنّفها القضاة، ساعة نطقهم بالحكم، على أنّها عمليات قتل "نفّذت بظروف خطيرة استثنائية" .
كانت عضو الكنيست أييليت شاكيد، من حزب "البيت اليهودي"، هي المبادرة لتقديم مشروع القانون الذي حظي بأكثريّة، وأتاحت لرفيقها، في ذلك البيت، وزير الاقتصاد نفتالي بينيت، بأن يتبجح معلنًا: "أن القانون الجديد سيعيد الأخلاقية وسلامة العقل للسياسة الإسرائيلية بما يتعلق بالإفراج عن المخربين، وذلك بعد سنوات من الضياع الأخلاقي".
يستهدف مشرّعو القانون زرع ألغام قد تعرقل أي إمكانية تقدم سياسي مستقبلي، من شروطها تأمين الإفراج عن أسرى الحرية الفلسطينية، المتضررين الأساسيين من القانون، لأنّ سجلّات الماضي ودفاتر الحاضر، تثبت أن معظم من أدين من اليهود بجرائم قتل سياسية وبنشاطات إرهابية عوملوا برفق واضح وباستحباب مبطّن.
لقد نكأت أقوال بينيت وجوقته جرح التاريخ الذي ما زال قيئه يتدفق سيولًا من عهر وبطش وباطل؛ فيا ويلنا من محتل ساط إذا تبجّح!
سجّل الموت قاهر، وقائمة من قتلوا عربًا ونجوا طويلة ومستفزة؛ كثيرون سبقوا عصابات "تدفيع الثمن" وضباع الهضاب السائبة وصاروا من ماض أسود منسي، فمن يتذكر اليوم، ما كان قبل الجريمة المنكرة التي راح ضحيتها الفتى "محمد أبو خضير"، وكيف ومن قتل سائق التاكسي "خميس توتنجي" وكم أمضى قتلته في السجن؟ أو من حاول قتل "بسام الشكعة"و"كريم خلف" وأين اليوم أفراد تلك العصابة؟ أو من قتل خميس عوّاد وهو في حقله في "ترمسعيا" وأين اليوم قاتله؟ ومن هو "ابن شيمول" و"شكولنيك" وكثيرون غيرهم؟ من يتذكر كيف كانت البدايات؟
-"جئت من روسيا وتجنّدت للتنظيمات السرية وبعدها للجيش، كانت الدولة وشعبي أهمّ عندي من أي شيء آخر"، بهذه الكلمات برر "أبراهم بن موشيه"، عضو حزب "حيروت"، طعنته للنائب الشيوعي "ماير فلنر"، مباشرةً بعد حرب الأيام الستة؛ كانت دوافع فعلته، كما شرحها للمحكمة، مقززة، ولكن كان موقف المحكمة المدنية التي أدانته أخطر بكثير وذلك، بعد أن أبدت، في ذلك الوقت المبكر، تفهّمًا سياسيًا، لتلك الدوافع واستعطافًا لأحاسيس ذلك المجرم، بينما تحفّظت من مواقف فلنر المعلنة ضد الاحتلال، الذي بدأ يتفوق، من وقته، بموبقاته، ويمضي، مستقويًا بجهاز قضائي متفهّم ومساند، في طريق التجبر ومحو الإنسانية.
كادت تلك الطعنة أن تودي بحياة نائب في الكنيست، في حين اعتبر فاعلها رجلًا وطنيًا وبطلًا حظي بعناقات زوجته وأقاربه ومواطنين غمروه بباقات الورد في قاعة تلك المحكمة المهزلة.
عدت إلى تلك البداية الرمزية، كي أذكّر من نسوا، وأؤكد أن منظومة الحكم في إسرائيل، بمجموع مركّباتها، تواطأت ودعمت، عمليًا، مجرمين يهودًا نفّذوا جرائمهم على خلفيات عرقية وأيديولوجية، ورسّخت سياسة، أدّت، في النهاية، إلى تعاظم قوة ووزن المستوطنين ومكاسبهم.
إنه تاريخ اللاأخلاق واللّاعدل. تفاصيله كثيرة وتشبه بجوهرها ما شهدته قاعة المحكمة المنعقدة، في الطابق الثاني من المبنى الجميل، الذي غنمته إسرائيل في الحرب وحوّلته بيتًا لعدلها المفقود، أثناء محاكمة شاب مقدسي متهم بمحاولة قتل يهود كانوا مسافرين في باص اعتلاه وهجم على ركٌابه ببلطة فجرح منهم اثنين.
في البداية، حسبت أن مهمتي ستكون سهلةً، فقبلنا نظرت هيئة المحكمة في قضية أربعة من الشبان اليهود الذين خططوا ونفذوا عملية إرهابية في سوق اللحامين في القدس القديمة. وصل القتلة إلى المكان الذي اختاروه بعناية، لكونه مكتظًا بالمتسوقين العرب، فرموا، بين المدنيين، قنبلة قتلت من قتلت وجرحت منهم كثيرين. هيئة المحكمة وفي سابقة خطيرة لم تحكم عليهم بالمؤبد، كما كان مقبولًا ومتوقعًا، بل اكتفت بسجنهم ما بين خمسة أعوام وخمسة عشر عامًا، معللة ذلك بصغر سنهم وبأسباب واهية أخرى.
مستبشرًا بما سمعته في قرارها، ولصغر سن موكلي ولأنه قرر أن ينفذ عمليته انتقامًا لكرامة أبيه الذي أهين من قبل جندي قبل يوم من تاريخ الحادث، بدأت مرافعتي متفائلًا.
كانت العائلة في طريقها لزيارة ابنتها في القدس، هكذا بصوت يغالب بركانًا أحسسته ينفجر بحلقي، شرحت للقضاة ما حصل، حين أوقفهم الجنود على أحد الحواجز، وبدأوا بالتفتيش على هوياتهم. أحد الجنود بدأ بالتعرض للأب الذي كان وراء مقود السيارة، فنزع كوفيته عن رأسه وألقاها على الأرض وهو يسخر منهم جميعًا، حافظ الأولاد على هدوئهم، والأب على صمته. فجأة قام ذاك الجندي بصفع الأب على خدّه مرتين وهو يقهقه كالعاهرة، وبعدها صرخ بهم لينصرفوا. كانت لحظات مرعبة وحزينة، فالأولاد صغار وقاصرون، شاهدوا أباهم وهو يذل، والأب خشي أن يصيبهم مكروه، فبلع المهانة ودمعه، ومضى.
ساد القاعة صمت. أنهيت مرافعتي وأحلت القضاة لقرارهم الذي ما زالت رائحته تعبق في فضاء المحكمة، وأكّدت أنني أتوقع، على القياس، أن يحكم موكلي بأقل من خمسة أعوام.
سمعوا أقوالي على مضض، وعلى عجلة، كمن يحملون تهريبة، أقروا أن لا مكان للمقارنة، وأنّ لكل فعل معطياته وميزاته، فموكِّلي، هكذا قرّروا مجرم وإرهابي، وحكموه بثلاثين عامًا سجنًا فعليًا.
"يجب أن يموت الإرهابيون في السجن، وهكذا سيكون من الآن"، أعلن بينيت بعد التصويت في الكنيست. فهل سيبقى كاتب التاريخ مختالًا، أم ظالمًا "أحمق من هبنّقة"؟
[email protected]
أضف تعليق