إنه العاشر من محرّم، اليوم الذي يحيي فيه المسلمون ذكرى إمامهم "المظلوم"، الإمام الحسين، الذي استشهد وهو يرفع راية "الإصلاح" في أمّة جدّه، رسول الإسلام محمد..
في هذا اليوم، تتعدّد الطقوس المتبعة لـ"إحياء أمر" أهل البيت ومواساةً لهم، منها المتفق عليها على غرار الاستماع لمجالس العزاء، والمشاركة في المسيرات العاشورائية، وزيارة الإمام وأصحابه، ومنها التي لا تزال مثيرة للجدل على غرار التطبير.
وإذا كان البكاء "جامعًا" بين معظم هذه الشعائر، وقد ثبت فضله واستحبابه، فإنّ المطلوب اليوم هو أكثر من ذلك بكثير، في ضوء ما تمرّ به الأمّة من أوضاعٍ يندى لها الجبين، بل من تشويهٍ لأصل الرسالة السماوية وجذورها.
بتنا نعيش عاشوراء قولاً وفعلاً..
لم يعد الحديث عن عاشوراء اليوم مجرّد سردٍ لسيرة إمامٍ أعلنها "ثورة" على من كانوا يشوّهون صورة دين جدّه، يوم قرّر تحدّي الظلم والاستبداد فرفع راية الإصلاح، قائلاً: "إنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِراً وَلاَ بَطِراً وَلاَ مُفْسِداً وَلاَ ظَالِماً؛ وَإنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإصْلاَحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي".
لم يعد استرجاع السيرة الحسينية وأحداث كربلاء، بتفاصيلها القاسية والمؤلمة، وصولاً إلى حادثة قطع رأس الحسين وسبي النساء، مجرّد استرجاعٍ لقصصٍ تاريخية مضت، ولو تركت أثرًا كبيرًا في نفوس المؤمنين لا يزال ظاهرًا حتى يومنا هذا.
اليوم، بات لهذا الاسترجاع وهجٌ مختلفٌ ومرارة تتفوّق على كلّ أنواع المرارة، كيف لا ونحن نعيش عاشوراء من جديد قولاً وفعلاً، بل نجسّدها على أرض الواقع من حيث ندري أو لا ندري، في وقتٍ لا ينكر فيه عاقل أنّ الأمّة تتعرّض للتشويه بعناوين وشعاراتٍ ظاهرها إسلامي للأسف الشديد. ولعلّ ممارسات بعض التنظيمات المسمّاة "إسلامية" التي ترفع شعار "بالذبح جئناكم"، معطوفة على مشاهد الرؤوس المقطوعة تحت صيحات "الله أكبر" و"محمد رسول الله"، خير دليلٍ على أنّ التاريخ يعيد نفسه اليوم، بأبشع وأقبح صوره.
وإلى دولة الخلافة دُر..
يقول المؤرّخون أنّ أحداث كربلاء مرتبطة بمسألةٍ سياسيةٍ وهي الخلافة، باعتبار أنّ سببها المباشر كان رفض الإمام الحسين أن يبايع يزيد بن معاوية لخلافة المسلمين، لأنّ الأخير "رجلٌ فاسقٌ شاربٌ للخمر قاتل للنفس المحرمة معلنٌ بالفسق"، قائلاً "مثلي لا يبايع مثله"، و"والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية".
وهنا أيضًا، تستوقف المتابع التطبيقات الراهنة لهذا الواقع، حتى يخيّل للبعض أنّ شيئًا لم يتغيّر خلال ما يزيد على 1375 سنة. وفي هذا السياق، يبرز تنظيم "داعش" أو كما يفضّل تسمية نفسه بـ"الدولة الإسلامية"، وهو الذي يتباهى بمساعيه لإعادة إحياء "دولة الخلافة"، بل يرسم خططًا للتوسّع والتمدّد ليشمل كامل المنطقة، ووصل به الأمر لحدّ دعوة المسلمين لمبايعة "أميره"، أبو بكر البغدادي، "خليفة" عليهم. أما ممارسات هذا التنظيم، فلا يشكّ أحد بأنها لا تمتّ إلى الإسلام وتعاليمه بصلة، وهي التي تقوم على التكفير والخطف والذبح والنحر، فضلاً عن الانغلاق ورفض الانفتاح على الآخر، وهو ما يبدو واضحًا من "الأفكار الجهادية" التي يتبنّاها وفي مقدّمها قتال غير المسلمين وغزو العالم لنشر الدعوة، وكذلك منع ترميم أو إعمار كنائس المسيحيين المهدّمة وعدم الجهر بصلواتهم، فضلاً عن إباحة قتال الحكام المسلمين والمعارضين للتنظيم، وجواز قتل المسلم إذا تمترس به الكافر كأساس شرعي لتبرير بعض العمليات العسكرية التي يترتب عليها قتل المسلمين.
ولا يغرّد تنظيم "داعش" وحده في هذا السرب "التكفيري"، إذ إنّ "أشقاءه" باتوا لا يُعَدّون ولا يُحصون، حتى ما يكاد "ينطفئ" نجم أحدهم حتى يبزغ غيره، في مشهدٍ يعيدنا إلى المربّع نفسه، المربّع القائل بأنّ البوصلة ضاعت، وبأنّ الدين الذي أنزل رحمة للعالمين وليكون دين رحمة ومحبة وتلاقٍ بات اليوم بفضل ممارسات البعض يرمز إلى كلّ شيءٍ سوى ذلك.
"يزيديون" بالجملة..
هي باختصار صورة الواقع الإسلامي اليوم، واقعٌ بات "اليزيديون"، على كثرتهم، يحتلونه دون منازع، فيما ينشط "الحسينيون" في ميدان "التنظير"، الذي، على أهميته وقيمته الكبيرة، لم يعد كافيًا على ما يبدو، خصوصًا أنّ المطلوب اليوم أكثر بكثير من استذكار سيرة الإمام الحسين والبكاء عليه وعلى أصحابه نتيجة مصابهم الأليم، وأكثر من المجاهرة بأنّ ممارسات التكفيريين باسم الإسلام لا تمتّ إلى الإسلام بصلة. المطلوب اليوم هو أخذ العِبَر أولاً وأخيرًا، والوفاء للإمام المظلوم والثأر له، عبر رفض قتله ثانية، ولو بعد 1375 عامًا.
"إحياء أمر" الإمام الحسين وغيره من أهل البيت لا يكون فقط بالصور الجامعة التي تؤكد على "إنسانية" الذكرى وبُعدِها عن "المذهبية"، ولا يكون بالتوحّد على شعاراتٍ قيّمة على غرار "هيهات منا الذلة" و"لبّيك يا حسين"، بل يكون بترجمة هذه الصورة الجامعة وتطبيق هذه الشعارات عمليًا، حرصًا على دينٍ فداه الإمام الحسين بدمه دون أن يبالي.
اتقوا الله لعلّكم تفلحون..
"عباد الله اتقوا الله وكونوا من الدنيا على حذر، فإنّ الدنيا لو بقيت لأحد أو بقي عليها أحد، كانت الأنبياء أحق بالبقاء، وأولى بالرّضى، وأرضى بالقضاء، غير أنّ الله تعالى خلق الدنيا للبلاء، وخلق أهلها للفناء، فجد يدها بالٍ ونعيمها مضمحلّ، وسرورها مكفهر، والمنزل بلغة والدّار قلعةً فتزوّدوا، فإنّ خير الزاد التقوى، فاتقوا الله لعلكم تفلحون".
هي وصية الإمام الحسين لأنصاره وأصحابه، وصية تختصر كلماتها الواقع المفترض لدينٍ بات اليوم يبحث عن هوية أضاعها "متطرّفون" حرّفوه عن وجهته الصحيحة، وصية لو يقتدي بها المسلمون، كلّ المسلمين، لعادت الأمّة إلى صراطها المستقيم.
باختصار، في ذكرى الحسين، كم تحتاج هذه الأمّة إلى "حسين" هذا الزمان، "حسين" يحيي "الثورة الأصيلة" بعيدًا عن كلّ "الثورات المزيّفة"، لعلّ الحق ينتصر مجدّدًا فيزهق الباطل!
[email protected]
أضف تعليق