شاهدت قبل شهرين بشكل مركز وفي إطار مشروع تدريسي أكاديمي معظم وأهم الأفلام الفلسطينية التي انتجت منذ العام 1987 وهو العام الذي انطلقت فيه السينما المستقلة عن المؤسسة فيما يعرف بسينما المؤلف أو سينما المرحلة الرابعة، وبعد هذه الجرعة المرهقة والممجوجة شاهدت فيلم "فيلا توما" لسهى عراف مخرجة كاتبة ومؤلفة للعمل، ويمكنني بسهولة تامة أن أضع جميع الأفلام في كفة وهذا الفيلم في كفة أخرى ، لا لجودة الفيلم وفنيته مقارنة بغيره بل ببساطة شديدة...لما يتناوله . خلال مشاهداتي الصيفية وهي في الغالب مشاهدات ثانية بعد سنوات طويلة أطلقت بيني وبين نفسي على ما قدم حتى الآن "سينما هالقيت" وهالقيت هي كلمة مرادفة للآن وبطبيعة الحال لهلق- إسا- هسع- هسعيات وغيرها إلى ما لا نهاية ، وجاءت تسميتي اللئيمة هذه لسبب واحد نابع من اشكالية أوسع، فقد لاحظت أن الكثيرين من أبطال الأفلام الروائية ومع اختلاف المواضيع ومواقع التصوير يرددون لفظ "هالقيت" دون سبب مقنع ودون تبرير جغرافي أو ثقافي لذلك ، وما أريد قوله هنا أنه على الرغم من التنوع الظاهري في بعض الأفلام إلا أن المشاهد لو قشر الطبقة الخارجية قليلا سيجد تشابها مذهلا بين السرديات وبين الشخصيات فيما بينها وبالتالي قصصها وخلفياتها الثقافية والحضارية وكأن الشعب الفلسطيني هو "صبة باطون" واحدة لا يمكننا تحليلها إلى عواملها كي لا نفهم بشكل خاطئ ، بمعنى أن الخوف الكامن بحزم في اللا-وعي لدى المبدعين من مؤسسة وطنية وهمية ورقابة غير قائمة جعلهم يرسمون خطوط التنوع في المجتمعات الفلسطينية ولكن لا يحركونها وهو ما تتطلبه الدراما. ما تقدمه سها عراف في عملها "فيلا توما" هو وضع ذاكرة الأفراد او ذاكرة "أفراد" هم جزء من الشعب الفلسطيني في سياقها الدرامي الحقيقي وليس الذاكرة المفتعلة أو الذاكرة المقسمة بين صح\خطأ فعراف لا تحاكم الطبقية والطائفية أخلاقيا بل تعرض لها وتكتفي بذلك وهذا يكفي ، فمثلا في فيلمي ايليا سليمان "يد الهية" و "سجل اختفاء" وعلى الرغم من استخدامه للغة ما-بعد حداثية الا ان المخرج يحاكم الاختلاف المتمثل بالطبقة الوسطى المسيحية في الناصرة أخلاقيا لصالح "الهوية" الفلسطينية الجامعة في القدس ورام اللة مع أنه يتدارك ذلك في فيلمه الرائع "الزمن المتبقي" إلا أنه يقوم بذلك دون الخوض في التفاصيل.
تبدو حكاية "فيلا توما" وكأنه تم إخراجها بشكل عنيف من الخزانة وبالأحرى من بين النفتالين، ولكن القصة برأيي أخرجت من الخزانة بمفهوم الأدبيات الغربية المثلية ولكن لم يكن هنالك نفتالين، بمعنى أن الخطوة السينمائية الجريئة التي قامت بها سهى عراف لم تكتف باللعب على الشكل الخارجي للتنوع، بل هي لعبت بدهاء سينمائي ملفت بالهوية الجامعة وليست معها ولم يكن هدف المؤلفة في هذه الحالة العبور عبر التنوع بهدف الوصول إلى ذات وطنية متجانسة ، بل هي رشقت المشاهد العروبي الذي يريد تأجيل كل شيء إلى أن تتحرر الأرض ،بوجهه بما لا يريد أن يراه أي بأمهاتنا وجداتنا وخالاتنا وعماتنا وبذاكرتنا الحقيقية التي تشكل ملامح بيوت قديمة مهددة بالزوال..من خلال "آرت دايركشن" وتصميم أزياء.. لم تفته أي من التفاصيل الدقيقة التي تشكل هذه الذاكرة لوجود حضاري تحرسنه عمات على حافة قبورهن ...ليأتي التصوير الصارم ويتوج كل هذا ويبرزه بمعانيه المتوارية ..القبعات، الكفوف، الشالات الصوفية البيضاء، أقراص التطريز، أواني الاغتسال الصينية من الخارصين، الستائر، البوفيهات، طاولات التواليت والقائمة تطول..
نجد في كل مدينة فلسطينية قديمة ، كل من جولييت وأنطوانيت وفيوليت وبديعة باشكال وجرعات مختلفة وذلك في القدس ويافا وحيفا وعكا والناصرة وراماللة وبيت لحم وبيت جالا وربما في نابلس أيضا..تمثل قصة هؤلاء النسوة تلك البيوت التي هجرها الرجال إلى الولايات المتحدة أو كندا أو أمريكا اللاتينية وذلك مع كل أزمة كانت تحل بالأرض والإنسان لتبقى الفتيات ويكبرن في البيوت الفارغة والباردة بانتظار عريس لا يأتي بسبب الخلل الذي أحدثته الهجرات بصحبة الصور والتماثيل وأطقم الجهاز كحارسات لذاكرة أو ملامح زمن يحتفي بأفوله ، وذلك في محيط يتغير باستمرار ويتفاعل مع كافة الإزاحات الاجتماعية ما يزيد من عزلتهن وخسارتهن لكل شيء باستثناء تلك النظرة الطبقية\الطائفية الكاريكاتيرية التي تميزهن عن أبطال الزمن القادم ، وتلك اللغة الجسدية \ الثقافية المأخوذة من تقاليد مجموعات كانت ولم تعد أو لم تعد كما كانت في فلسطين بألوانها الخفية.
[email protected]
أضف تعليق