الصفّين السابع والثامن تعلّمت في معليا. تصوّروا ولدا قدّ اللقمة يتعلّم السابع والثّامن خارج قريته. بل يقيم هناك أيضا في غرفة مستأجرة، مع كثيرين من التلاميذ من قرى الشمال، ليعود إلى قريته مرّة واحدة في آخر الأسبوع. كان البيت المستأجر ذاك بجانب الشارع القادم من قريتنا، وأشبه ببيت طلبة فعلا. معليا اليوم قريبة من البقيعة، قريبة جدّا، أقلّ من عشرة كيلومترات. لكنّها في الأيّام تلك كانت بعيدة، بعيدة جدّا!
مشاهد ثلاثة شدّت نظر وفكر ذلك الصبيّ الصغير القادم من القرية المجاورة. المشهد الأوّل بركة من الماء كبيرة على الطريق إلى المدرسة. سألت أبي عن معنى هذه البركة الواسعة العميقة من الماء، تعترض طريق الغادي والرائح، وقد تشكّل خطرا على من يجهل السباحة مثلي. شرح لي الوالد أنّها بركة جمع؛ بركة من صنع الإنسان يعني. ليس في معليا ينابيع كثيرة مثل بلدنا، أردف والدي. لذا يعمدون هناك إلى حفر مثل هذه البركة العامّة، فيستفيدون من مياهها إلى أن تجفّ طبعا في الصيف. ما زلت في هذه الأيّام حين أمرّ بذلك الموضع، أقف هنيهة، وأسترجع تلك البركة، وتلك الأيّام.. لست من يتمنّى إعادة عجلة الأيّام إلى الخلف، إلى تلك الأيّام البعيدة من ماضيّ، الصعبة على أبناء تلك الأيّام جميعهم. لكن يحقّ لي استرجاعها في خيالي، أم تراني لا يحقّ لي استرجاعها في الخيال أيضا؟!
المشهد الثاني لم أمرّ به كلّ يوم، مثل البركة، لكنّه ما زال في مخيّلتي ماثلا لا يفارقها مع الأيّام والسنين. في أحد الأيّام رافقت أحد تلاميذ صفنا إلى مركز البلد. إلى مركز البلد في تلك الأيّام طبعا. هناك تعرّفنا كنيسة القرية. كنيسة فخمة إذا قسناها بالكنيسة الصغيرة في قريتنا. لكنّها لم تشدّ نظري ولا فكري. شدّ نظري وفكري، فوقفت مشدوها، كومة كبيرة من الحجارة، قال لي رفيقي إنّها دار شكري الشوفاني، بعد نسفها. الدار المهدّمة مثل القتيل الملقى على الطريق. لا حياة ولا حركة. جثّة هامدة. لكن كلّ حجر فيها يثير في رائيه حسرة ومرارة. من هدم هذه الدار؟ سألت ابن صفّي. هدمها اليهود بعد الاحتلال، أجابني رفيقي. كان شكري الشوفاني محاربا مع القوّات العربيّة، فهدم اليهود بيته لمّا كان الاحتلال. أمّا صاحب الدار فهرب إلى لبنان. وما زال هناك، بعيدا عن عائلته وقريته.
المشهد الثالث كان مشهدا إنسانيّا. شابّ طويل القامة، أبيض البشرة، ساحر الابتسامة، تظنّه إنجليزيّا في النظرة الأولى. هو المعلّم الياس شوفاني ابن شكري الشوفاني، صاحب الدار المهدومة. لا أعرف بأيّ حقّ زرت عائلة الأستاذ الياس في بيتهم غير مرّة. ربّما بحكم الصداقة التي كانت لوالدي مع العائلة، والحكايات الكثيرة عنها التي رواها لنا الوالد. بيت طافح بالحياة والشباب، لا تكاد تلحظ على وجوه ساكنيه مأساة اغتراب الأب وهدم الدار. هل تعمّدوا واعين تغطية ألمهم الكبير لرحيل الأب وهدم الدار، أم تلك طبيعتهم تخفي المأساة عميقا في الداخل، فلا تظهر لمن لا يرى إلا السطح فحسب؟!
لم أعرف يومها ما هي ثقافة الأستاذ الياس. هو معلّم في المدرسة وكفى. علّمنا اللغة العبريّة بالذات. ما زال خطّه الجميل المكوّر ماثلا أمام عيني على اللوح. وأظنّني اقتبست عنه ذلك الخطّ أيضا، على غير وعي منّي. خطّك في العبريّة جميل، أقرب إلى خطّ البنات، قالت لي معلّمتي اليهوديّة في ثانويّة كفر ياسيف. لم أعرف ساعتها ما قصد المعلّمة بملاحظتها تلك. هل كانت ملاحظتها مدحا أم ذمّا. لكنّني عرفت بعدئذ أنّها قصدت المديح طبعا. إلا أنّ المعلّمة المادحة لم تعرف، ومن أين لها أن تعرف، أنّ الخطّ الجميل المذكور ورثته عن الأستاذ الياس. دونما قصد أو وعي منّي أيضا.
لكنّ أثر الأستاذ الياس فيّ لم يقتصر على الخطّ. علّمنا تصريف الفعل السالم في العبريّة، بكلّ أوزانه وحركاته. ويوم انتقلت إلى المدرسة الثانويّة في كفر ياسيف، لم يعرف أبناء صفّي، ولا معلّمة العبريّة أيضا، أنّ الفضل كلّه، في التصريف المحكم بالحركات الدقيقة، يعود للأستاذ الياس، الذي علّمني العبريّة في مدرسة معليا.
بالإضافة إلى تعليمي العبريّة، وتوريثي خطّه الجميل والتصريفات الدقيقة، لا يمكنني نسيان "فضله" عليّ في "واقعة الشعور" أيضا. فقد قرّر أبناء صفّنا، يوم بدء الامتحانات الفصليّة بالذات، الإضراب عن المدرسة، والاعتصام على رأس تلّة قريبة، احتجاجا على إرغامنا حلاقة شعورنا "على القرعة". بعد إنهاء "المفاوضات"، ورجوعنا إلى المدرسة ظافرين، كان الأستاذ الياس من لفّ ذراعه حول عنقي ليثبّتني، و"ينجّم" معلّم آخر شعري، مثل بقيّة أبناء الصفّ. لكي نضطرّ طبعا إلى حلقه، في آخر مرّة، كما نصّت "وثيقة" وقف الإضراب. خشية اعتبارنا تراجعهم انتصارا للإضراب! ما زلت أذكر أني أبقيت، أنا وبعض أبناء صفّي، على "النجمة" المذكورة، إلى أن حان موعد الحلاقة، فأفشلنا بمسلكنا ذاك مؤامرة "التنجيم"المذكورة!
لم أشاهد الأستاذ الياس بعد تلك الأيّام. لكن لم تأخذني الدهشة، ولا العجب، حين سمعت أنّه رحل عن هذه البلاد إلى الولايات المتّحدة، حيث نال الدكتوراة، في التاريخ بالذات، ليعود بعدئذ إلى دمشق، عضوا بارزا في المنظّمات الفلسطينيّة، ويموت هناك أخيرا، بعيدا عن قريته وأهله، قريبا من قضيّته وحلمه!
[email protected]
أضف تعليق