تمخّضت الانتخابات التونسيّة الاخيرة عن فوز حزب" نداء تونس" العلماني بأكبر عدد من مقاعد البرلمان ,وبناء عليه غدا المكلّف الشرعي, حسب الدستور التونسي بتشكيل الحكومة القادمة في البلاد خلفا لحكومة الترويكا وعلى رأسها "حركة النّهضة" الاسلاميّة.
الانتخابات هذه أعادة تصدّر قادة من الصف الاول المشهد السياسي التونسي من المحسوبين على نظامي بورقيبة وزين العابدين بن علي البائدين وفلولهما من ليبراليين وعلمانيين وعلى رأسهم زعيم حزب نداء تونس الباجي قائد السبسي, الذي شغل مناصب عدة فترة حكم بورقيبة وبن علي اهمها: وزيرا للخارجيّة والداخليّة والامن, والمعروف بميوله الغربيّة والليبراليّة وولائه القوي للغرب ,لا بل ومواقفه الرافضة للمشروع الاسلامي ولنهج حركة النهضة.
هذه الانتخابات حسبما نشرت وسائل الاعلام, لم تخل من تدخّلات لقوى اجنبيّة على رأسها مصر السيسي ودولة الامارات(وربما السعودية) التي قدّمت ملايين الدولارات للقوى المناهضة لحركة النهضة, اضافة لدور قوي ومن وراء الكواليس للاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة الامريكية.
نتائج الانتخابات التي جاءت حركة النّهضة فيها في المرتبة الثانية بعد نداء تونس وبفارق يزيد قليلا على 10 مقاعد من مجموع اعضاء البرلمان التونسي البالغ 217 مقعدا ,قبلت به الحركة وهنّأت نداء تونس بفوزه فيها باعتباره تعبيرا عن ارادة الشعب التونسي, عبر عمليّة ديمقراطيّة ووفق مبدأ تداول السلطة وروح الدستور التونسي,وهي تعلم تماما ان مشاركتها في تشكيل الحكومة التونسيّة العتيدة معدومة, لان حزب النداء الفائز يملك القدرة على تشكيل حكومة قويّة بدون مشاركة النّهضة, من خلال الاحزاب الليبراليّة والديمقراطيّة الاخرى ذات الاجندات السياسيّة المقبولة والمشابهة لنهج حزب النداء.
وحول مستقبل العمليّة السياسيّة والمشهد السياسي التونسي بعد انتهاء تصدّر حركة النهضة السلطة في تونس,وفوز التيار الليبرالي العلماني وفلول النظام السابق في الانتخابات, يبقى المشهد ضبابيا بل محفوفا بالمخاطر بخاصة فيما يتعلق بمستقبل حركة النّهضة, وفرص بقائها ضمن الطيف السياسي التونسي المؤثّر,وعليه فهناك عدة سيناريوهات يمكن قراءتها بناء على ما سلف, أهمها:
السيناريو الاول: استمرار الحضور السياسي لحركة النّهضة ضمن المشهد السياسي التونسي, وتعايش كل طرف مع الاخر ضمن ثقافة تداول السلطة والتعدديّة السياسيّة في اطار النهج الديمقراطي ,وعدم استخدام ما يعرف بسياسة الاقصاء, وهذا مرهون في الدرجة الاولى بحزب "نداء تونس" وما يحمل من اجندة سياسيّة ورؤيته لمستقبل تونس,وليس بحركة النّهضة التي قبلت بنتائج الانتخابات واعتبرتها تصب في خانة احترام ارادة الشعب واللعبة الديمقراطيّة.
السيناريو الثاني: أقصاء حركة النّهضة عن المشهد السياسي التونسي تماما وبشكل تدريجي وصولا الى تغييبها سياسيا"لا قدّر الله" تماما مثلما حصل للإخوان المسلمين في مصر, وهذا بالتأكيد في حال حصوله سيتم وفق مخطّط تدريجي مدروس قد تشارك فيه قوى اجنبيّة كمصر مثلا وامريكا والاتحاد الاوروبي ودول عربيّة خليجيّة ودول جوار لتونس,بسبب مواقف هذه الدول والكيانات الرافض للمشروع الاسلامي.
أما سيناريو اقصاء حركة النّهضة ان تم فسيكون وفق الاليات التالية:
*افتعال النظام الجديد واجهزته الامنيّة والمخابراتيّة عمليات امنيّة معيّنة تتهم بها حركة النّهضة او بعض المقرّبين منها لأثارة الراي العام التونسي ضدها ابتداء.
*اتهام حركة النّهضة بالارتباط بحركات اسلاميّة اقليميّة او عالميّة محظورة توصف بالإرهابيّة على المستويين الاقليمي والعالمي.
*تلفيق ملفات فساد لأعضاء في حركة النّهضة خلال فترة حكمهم السابق بهدف ايجاد مبرّر قانوني لملاحقة الحركة قضائيا والزج ببعض رموزها في السجون.
*اختلاق او افتعال محاولة انقلاب حركة النّهضة على النظام الجديد لإخراجها خارج القانون التونسي, وفي التالي حظر نشاطاتها ومطاردة قادتها.
السيناريو الثالث:استئثار حزب" نداء تونس" بالسلطة وتنكّره للدستور, واعلان حالة الطوارئ في البلاد مع الوقت ,ومن ثم سن قوانين وتشريعات في ظل هذا الوضع يحظر مشاركة احزاب بعينها في العمليّة السياسيّة, وبالذات قبل الاستحقاق الانتخابي القادم,تكون فيها حركة النهضة هي الضحيّة الكبرى.
هذا الاجراء يمكن ان يتم بعدما يتمكّن النظام العتيد من الامساك بكل مفاصل الدولة ,وتثبيت حكم الحزب الفائز عمليا على الارض, وعودة ما يعرف بالدولة العميقة بخاصة جهاز الاستخبارات والاجهزة الامنية الاخرى من شرطة ودرك,والحصول على الولاء الكامل للجيش.
هذا السيناريو غير مستبعد حصوله في ظل مواقف بعض الدول العربيّة وعلى راسها مصر والسعودية والامارات والغرب "والكيان الاسرائيلي" الرافض لوصول التيارات الاسلامية كراسي الحكم.
السيناريو الرابع:فشل التحوّل الديمقراطي في تونس ,ودخول البلاد في حالة من الفوضى السياسيّة والامنيّة او فيما يعرف بالدولة الفاشلة,في حال حاد الحزب الحاكم والنظام القادم عن مبادئ الثورة واعاد انتاج النظام السابق مجدّدا, وتنكّر للدستور وهمّش اقطاب الطيف السياسي التونسي,وكبت الحريات وفشل في تلبية مطالب الشعب الملحّة.
السيناريو اعلاه ان تم فان البلاد قد تشهد ثورة مضادّة تعيد البلاد الى المربع الاول (ثورة 2011),بحيث تأخذ الجماهير زمام المبادرة ,وتعمل على تغيير القيادة السياسيّة الجديدة وترحيل النظام .
لكن امرا مهما يجب ان يقال في خضم هذه السيناريوهات يصب في صالح حركة النّهضة التي تقبّلت نتائج الانتخابات بكل اريحيّة, فعدم فوز الحركة في الانتخابات الاخيرة اراحها كثيرا من ثقل المسئوليّة بخاصة وتونس لا تزال تعيش مرحلة المخاض الثوري وعدم استقرار سياسي ,في ظل قائمة طويلة من القضايا المطلبيّة للشعب التونسي وعلى راسها تحسين الاوضاع الاقتصاديّة والمعيشيّة والاجتماعيّة والامنيّة والقضاء على الفساد بكل انواعه.
وخلاصة القول تتلخص في ضرورة التروي والانتظار لما يلي العمليّة السياسيّة الجديدة بخاصة وتونس مقبلة ايضا على استحقاق رئاسي ,ستكون له مردوداته وانعكاساته السياسيّة على المشهد السياسي,بخاصة اذا ما فاز في الانتخابات مرشّح موال لحزب "نداء تونس", حينها سيفسّره الحزب على انه تفويض كامل من الشعب التونسي له,مما قد ينعكس سلبيا على مستقبل المشهد السياسي التونسي والنظام التونسي على وجه الخصوص.
لكن هناك من يرى ان تونس قد تشكّل نموذجا فريدا ورائدا في العالم العربي, بخاصة دول ما يسمى الربيع العربي ,بخروجها قويّة من مرحلة المخاض الثوري وترسيخ روح التعدديّة السياسيّة والتعايش مع الاخر, في ظل دولة مدنيّة وان اختلفت رؤى ومشاريع الفاعلين الرئيسيين فيها.
[email protected]
أضف تعليق