عاش الجيش اللبناني منذ مساء السبت لحظات عصيبة، كعادته في هذا البلد الذي أقسم على حمايته وبذل الغالي والرخيص في سبيله تحت شعار "شرف، تضحية وفاء".
الشريحة الأعظم من اللبنانيين تؤيد الجيش اللبناني والخطوات التي يتخذها من أجل حماية لبنان، وقلّة قليلة فقط تعارض هذا الأمر، وتشنّ حملة شعواء عليه بأصواتها الشاذة وتأخذ الامور إلى غير محلّها من أجل غاياتٍ رخيصة تعزّز حضور هذه القلّة على الساحة.
اليوم، يجد الجيش اللبناني نفسه مجدّداً في الخطوط الأمامية للمواجهة. وبعيداً عن الكلام المنمّق والحقد الهدّام، سنقوم بجردة منطقية سريعة لما يمكن أن يخسره لبنان بمجمله في حال تهاون الجيش مجدّداً مع الارهاب والارهابيين في طرابلس هذه المرّة:
- بغضّ النظر عمّا يدّعيه البعض من أنّ ما تشهده طرابلس هو "حملة على أهل السنّة في لبنان"، فإن هذا الامر لا يخفي حقيقة أنّ الجيش يتعرّض حالياً لاعتداءات في هذه المدينة، أي أنها مدينة تحوي أناساً يستهدفونه، ومن حقه الرد. وحين نقول إنّ من حقه الرد، لا يعني ذلك الرد الدبلوماسي والرد الظرفي والرد الموضعي، بل رد حاسم لا يحتمل التأويل ولا الليونة ولا التراجع، مع الاخذ في الاعتبار بطبيعة الحال أرواح المدنيين وسلامتهم.
وهذه الناحية (أي سلامة المواطنين) لا يحتاج الجيش فيها إلى عظات أو دروس. ولعلّ مخيم نهر البارد والمواجهات التي حصلت فيه خير دليل على ذلك، ولا يزال مشهد الجنود وهم يساعدون المدنيين الذين نزحوا من المخيم على حمل حاجياتهم والعبور بهم إلى المناطق الآمنة ماثلاً في اذهان الجميع.
- سيبقى موقف الغالبية العظمى من اللبنانيين خلف الجيش أياً تكن المدينة أو المنطقة التي يتعرض فيها للاعتداء والاستهداف، ولو حصل الأمر في الضاحية الجنوبية لبيروت أو في بعلبك أو في كسروان أو في صور... لكان اللبنانيون يؤيدون ردّ الجيش بالمنطق نفسه، أياً تكن النتائج.
وللتذكير فقط، فإن الجيش اللبناني هو الوحيد الذي يمكنه بالفعل طمأنة اللبنانيين إلى أمنهم واستقرارهم. وغيابه أو ضربه، يعني حتماً العودة إلى منطق الميليشيات و"أمراء الزواريب" الضيقة في المدن. وهذا أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل الدول الاقليمية والدولية تقف (ولو من الناحية المعنوية والمبدئية) مع الجيش منذ سنوات طويلة وحتى اليوم، كما وقوف اللبنانيين خلف المؤسسة العسكرية.
- دفع الجيش، ولا يزال، ثمناً غالياً هو دماء عسكرييه الشهداء في أكثر من محطة من أجل صون لبنان، وذلك بعد أن حسم الأمور ميدانياً. فمن نهر البارد وفرار شاكر العبسي، إلى مواجهات عبرا وفرار أحمد الاسير وعدد من إرهابييه، وصولاً إلى عرسال مع فرار الارهابيين وتحصّنهم في الجرود برفقة الجنود المخطوفين... كلها دلائل على أنّ الجيش يدفع دماً على الساحة الميدانية من أجل أن يُباع هذا الدم من قبل البعض في الساحة السياسية!
ولعلّ الجولات الـ20 التي تم خوضها في طرابلس والتي سقط فيها للجيش شهداء، هي الوحيدة التي تكفل وجوب مطالبة الجميع عدم القبول أن يدفع مجدداً الثمن الباهظ دون حل جذري هذه المرة للمشكلة واقتلاعها من جذورها.
- شئنا أم أبينا، فإنّ الارهابيين يرون في طرابلس فرصة جغرافية وسياسية وديموغرافية من أجل أن تكون على الأقل ممراً أو محطة لتنفيذ مآربهم وغاياتهم، وسياسة "الترقيع" التي اعتمدت زادت من هذا الاغراء. ولكن التحذيرات والمعلومات التي تشير إلى أنّ الاغراء تحول إلى مشروع جدّيّ للسيطرة على هذه المدينة، دفع بالجيش إلى اختيار قرار المواجهة المفتوحة، ولعلها المرة الأولى التي نراه فيها على هذا القدر من الجدية في تنفيذ قراره العسكريّ في طرابلس دون انتظار "الغطاء السياسي"، بدليل الطلب إلى المواطنين ترك منازلهم حفاظاً على أرواحهم. وربما أيضاً هذه المرة قد تكون من المرات النادرة التي "تضطر" فيها دول اقليمية ودولية فاعلة في لبنان، التزام سياسة "النأي بالنفس" إزاء ما سيقوم به الجيش.
- إنّ التحركات التي ظهرت مع المواجهات في طرابلس، في أماكن مختلفة من لبنان (عرسال، صيدا...) تظهر بما لا يقبل الشك أنّ المواجهات لم تحصل بشكل فجائي وغير مدروس، وأنّ المخطط موضوع مسبقاً من اجل "ضعضعة" الجيش وتشتيته وارهاقه.
هل فكّر أحد ماذا سيحصل لو تهاون الجيش في المعركة الدائرة حالياً؟ الجواب بسيط ولا يحتاج الى تفكير عميق. ستتحول كل المناطق الى طرابلس جديدة، وسيتحقق مخطط ضرب الجيش لان معنوياته ستكون مهزوزة، وسيصبح كل عسكري مشروع شهيد أو مخطوف، وستعمّ الفوضى في لبنان وفق مبدأ "حارة كل من إيدو إلو"، وستنتشر عمليات تسليح المواطنين وتنظيم هذا التسليح وفق منطق الميليشيات، وبعدها يمكن تعداد ما سنشهده في هذا البلد.
إنّ ما سيربحه الجيش في قرار الحسم الصارم يبقى أقلّ مما سيخسره، وإنّ التفاف اللبنانيين جميعاً حوله في عملياته سيبقى السبيل الوحيد لخلاصهم، وما عليهم سوى التطلع حولهم لمعرفة حقيقة ما سيكون عليه لبنان في غيابه.
ميزان الربح والخسارة في أيدي الجيش واللبنانيين، فأي كفّة سيرجّحون؟
[email protected]
أضف تعليق